هوامش حرة
افتعال الأزمات
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
من أسوأ الأشياء في حياة الناس أن يتحول المجتمع إلي ساحات للصراع والمعارك والمشاحنات دون أسباب موضوعية.. ويصبح من السهل أن تدور المعارك وتشتعل الخصومات وإذا نظرت إلي كل شيء حولك اكتشفت أنك تري اشباحا حيث لا فكر ولا حوار ولا خلاف حقيقي.. وهناك بعض الناس يجيدون مثل هذه الألعاب السحرية.. إنهم يفتعلون الخصومات في غير مناسباتها.. ويفتحون النيران في غير أوقاتها.. وتكون النتيجة أن نسمع الصراخ والعويل والشتائم ثم ينتهي كل شيء إلي صمت غريب..
وللأسف الشديد أن الحكومة في أحيان كثيرة تشارك بقوة في مثل هذه المناسبات الحزينة التي تضيع وقت الناس وأعمارهم.. إن الحكومة عندنا تسير في اتجاه عكس كل الحكومات في العالم وهنا في مصر ما أسهل أن تفتح نيرانها علي شخص ما أو اتجاه ما.. وما أسهل أن يخرج أحد أعضائها بمسرحية هزلية بحثا عن بطولة أو جذبا للأضواء.. أن الحكومات الحقيقية تسعي إلي الاستقرار.. وتخاطب العقول ولا تجري وراء مانشيتات الصحف..
وما أكثر الشواهد التي تؤكد ما أقول.. هناك معارك كثيرة مفتعلة تتحمل الحكومة مسئوليتها.. بل إنها في كثير من الأحيان تسعي إلي إيجاد حالة اشتباك دائم بين فئات المجتمع وهذا لعب بالنار ولا يليق أبدا أن يكون أسلوب حكومات في التعامل..
* أنا لا أبريء الحكومة والدولة مما حدث بين القضاة في الشهور الأخيرة الحكومة كانت قادرة علي وقف هذه الصراعات ما بين القضاة بعضهم البعض.. إن الانقسام الذي بدأ بين المجلس الأعلي للقضاء ووزارة العدل من جانب ونادي القضاة من جانب آخر تتحمل مسئوليته الدولة بكامل أجهزتها.. ما الذي يبرر مثلا وقف المساعدات المالية عن نادي القضاة؟.. والدولة تعرف مدي تأثيره وثقله بين رجال القضاء ما الذي يجعل الدولة تؤيد هذا علي حساب ذاك رغم أنها مسئولة عن الجميع؟.. أن ما يحدث للقضاة في مصر الآن إساءة لنا جميعا, فلا ينبغي أبدا أن نستنزف وقت وجهد رجال القضاء في صراعات وضغوط ومعارك..
* إن ما يحدث في نقابة الصحفيين من انقسامات ما بين صحف قومية وأخري مستقلة أو حزبية وما بين أنصار الحكومة ومعارضيها تتحمل الدولة جزءا رئيسيا من هذه الخصومات أنها تمارس ضغوطا علي الصحف الخاصة والمستقلة تبدأ بمنع الإعلانات وتنتهي بالإدانة يحدث هذا في الوقت الذي تركت الحكومة فيه الصحف القومية تسقط في هاوية الديون والإسراف والاعتداء علي قدسية المال العام.. لماذا لا تترك الدولة الصحافة وشأنها؟.. ولماذا لا تترك لنقابتها مسئولية الحساب والعقاب والمصادرة وفي قانون النقابة ما يعطي هذه الحقوق جميعها.. ولكن لماذا لا يعتصم القضاة.. ولماذا لا يضرب الصحفيون عن الطعام.. ولماذا تهدأ أحوال الناس وترتاح نفوسهم في ظل قواعد وتقاليد وقيم تحكم الجميع ؟..
* كان ينبغي أن يكون حديث الفنان فاروق حسني وزير الثقافة عن الحجاب أكثر فهما للظروف السياسية والاقتصادية التي يعيشها هذا الشعب لأن ارتداء الحجاب ليس فقط تمسكابالدين ولكنه هروب من أعباء لا يستطيع الكثيرون تحملها.. وإذا كان هناك طرف يدان فهو الظروف الاقتصادية التي تفرض ذلك علي الناس.. من أين للفتاة الفقيرة ثلاثون جنيها للكوافير و200 جنيه للفستان وهي لا تعمل ولا تجد من ينفق عليها.. إن الحجاب في معظم الأحيان هروب من الفقر.. فليست كل فتاة ترتدي الحجاب عضوا في الجماعة المحظورة وليس كل شاب دخل المسجد من الجماعات الإسلامية وليس كل من ترك لحيته وهاجم أمريكا إرهابيا.. أن90% من المصريين مؤمنون بالفطرة ولا علاقة لهم بالسياسة, فلماذا تريد الحكومة أن تضع الشعب المصري كله في سلة واحدة.. إنها بذلك تعطي للآخرين أكثر مما يستحقون,بل إنها تشجع الناس علي السعي إليهم..
* عندما يتردد كل مصري الآن في ركوب قطارات السكك الحديدية فليس هذا خطأ المواطنين ولكنه الإهمال الذي جعل الحكومة تترك هذا المرفق الخطير سنوات طويلة بلا تجديد حتي وصل إلي أسوأ حالاته.. فهل أخطأ المواطنون الذين يشاهدون كل يوم كارثة جديدة ؟..وهل تغضب الحكومة إذا وجدت من يتساءل إذا كنا عاجزين عن تسيير قطار فكيف سنقيم محطات نووية؟..
* لا يستطيع أحد أن يبرئ الحكومة من انقسامات حزب الوفد وصراعاته ولا نكبات حزب الغد ومعاركه.. وقبل ذلك تم إلغاء حزب العمل وإغلاق جريدته بسبب رواية وفي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن ضرورة تشجيع الأحزاب السياسية فإنها تشعل المعارك بين هذه الأحزاب.. ولا أدري لماذا الإصرار علي ضرب فئات الشعب بعضها ببعض وتجاهل الحوار وفرض السيطرة الأمنية كبديل عن الحوار والرأي الآخر..
* هل من المعقول أن تصل المواجهات بين الأمن والطلبة في الجامعات والعمال في المصانع إلي درجة إنشاء اتحادات ونقابات موازية لمؤسسات الدولة.. هل يمكن أن نتصور نتائج ذلك كله.. أن نجد جامعات موازية.. وأقسام شرطة موازية وحزب وطني موازيا وربما نجد أجهزة سيادية موازية.. ما هذا العبث الذي وصلنا إليه.. ولماذا نفتح أبواب الصراعات والمعارك بين شبابنا في الجامعات وعمالنا في المصانع.. وماذا سيفعل خمسة مرشحين أو عشرة من هنا أو هناك ولماذا لا تشجع الدولة الأحزاب علي المشاركة في مواجهة هذه المواقف؟.. ولماذا لا نجد أمامنا في كل الأحوال إلا الحلول الأمنية وقوات الأمن المركزي..
* من الكوارث الغريبة أيضا ما يحدث في أحيان كثيرة في بيع مشروعات الخصخصة حتي أن عمر أفندي- طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه- كان مسلسلا طويلا بين رجل اشتراه بمكالمة تليفونية وانتظرته الحكومة شهرين كاملين وبين وزارة الأوقاف التي تطالب بحقها بأثر رجعي وقطع من الأراضي لم تدخل في الاتفاق هذه الأشياء كلها تؤكد أن الأشياء لا تتم دراستها بالدقة المطلوبة وأن بيع مؤسسة ضخمة في حجم عمر أفندي لا يختلف كثيرا عن بيع محل كشري أو سوبر ماركت في الأحياء الشعبية..
* ما حدث في أزمة إنفلونزا الطيور هذا الشبح الذي اقتحم عشش الغلابة في الأرياف وعلي أسطح المنازل بطريقة همجية.. وكانت النتيجة ما نراه الآن.. خلت العشش من الطيور وتكدست المزارع بها.. وازدحمت أرصفة المواني بالدواجن المستوردة.. هل كان من الضروري أن تحدث كل هذه المسرحية استيرادا وإنتاجاوشراء وبيعا حتي نفتح الأبواب لأصحاب الملايين ونغلقها علي أصحاب الملاليم..
* في الوقت الذي نسرع فيه الخطي في عمليات بيع القطاع العام ونندفع بجنون إلي هادية الأجانب تحت شعار الإصلاح الاقتصادي نجد الإصلاح السياسي بطيئا هزيلا رغم الارتباط الشديد بينهما.. فليس هناك اقتصاد حر من دون إنسان حر.. وليس هناك إصلاح سياسي بعيدا عن الإصلاح الاقتصادي ولكننا نريد من الأشياء نصفها.. ونترك النصف الآخر للزمن والتاريخ واللامبالاة..
هذه نماذج سريعة لبعض المعارك التي تعيشها مصر وفيها الكثير من المعارك المفتعلة ما بين معركة عمر افندي وقطارات السكة الحديد والخصخصة واتحادات الطلبة والنقابات العمالية وأخيرا محنة الحجاب.. هذه الظواهر تؤكد أننا أمام مجتمع أدمن البالونات والشكليات والعنتريات المزيفة وهرب من قضاياه الحقيقية ومشاكله وأزماته..
والخطير في ذلك كله أن الشعب والحكومة معا يرتكبان هذه الجرائم وهم يدركان بكامل وعيهما أن المستقبل لن ينتظرنا كثيرا.. هناك قرارات وتصريحات ومعارك وإجراءات كثيرة كانت الحكومة في غني عنها ولكن ماذا تفعل مع حكومة تجيد افتعال الأزمات..
ويبقي الشعر
لـم يبق شيء للطـيورعلي ضفاف النـيل
غير الحزن يعصف بالجوانح
زمن العصافير الجميلة قد مضي
وتحكـمت في النهر أنياب جوارح
زمن القراصنة الكـبار يطل في حزن العيون..
وفي انطفاء الحلم.. في بؤس الملامح..
زمن الفوارس قد مضي..
قل للخيول تمهلي في السير
فالفرسان تسقط في الكمائن
قل للنـوارس حاذري في الطير
إن الريح تـعصف بالسفائن
قـل للطيور بأن وجه الموت قناص
يطوف الآن في كل الأماكن
ويل لماء النهر حين يجيء منكسرا
وفي فـزع يهادن