لوموا أنفســـــــــــكم‏..‏

هوامش حرة

لوموا أنفســـــــــــكم‏..‏

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة



من أسوأ أنواع الفشل ألا ندرك أسبابه الحقيقية ونحاول أن نلقي مسئولية تراجعنا علي الآخرين‏..‏ ومن الحكمة والعقل أن يراجع الإنسان نفسه من وقت لآخر حتي يدرك إلي أين يمضي‏..‏ وإذا كان ذلك هو المطلوب في حياة الأفراد فما بالك بمصائر الشعوب‏..‏



من الخطأ الجسيم أن يجلس شعب علي بقايا تاريخ يتباهي ويتكلم لكي يثبت للآخرين أنه شيء مختلف ومميز رغم أن كل الأشياء حوله تؤكد أن التاريخ لا يصنع وحده حاضرا ولا يبني بالضرورة مستقبلا‏..‏ وأن مقاييس الزمن لا تعترف بالذي كان‏,‏ خاصة إذا تعارض هذا الذي كان مع كل ما هو كائن الآن‏..‏ واليوم أريد أن تكون لدينا الشجاعة والقدرة لأن نصارح أنفسنا ونسمع صوت ضميرنا ولا نضلل الناس أكثر من هذا‏..‏



في الأسابيع الماضية حاول البعض أن يلقي بمسئوليه ما حدث في الشارع المصري من تشوهات علي الأشقاء العرب ابتداء من الأزياء وانتهاء بالفكر والسلوك والغناء‏..‏ وقال هذا البعض إن المرأة المصرية علي سبيل المثال ارتدت أزياء وافدة من دول الخليج العربي وإن هذه الأزياء لا تتناسب مع حضارة السبعة آلاف سنة‏..‏ وقال هذا البعض إن ملابسنا وسلوكياتنا وحياتنا قد تأثرت كثيرا بإختلاطنا بالأشقاء العرب‏..‏



ولا أدري علي أي أساس تصدر مثل هذه الأحكام المتسرعة والخاطئة‏,‏ خاصة إذا جاءت من مسئولين وقادة رأي‏..‏ وبجانب أن الحكم خاطيء ومضلل فهو لا يعكس شيئا من الحقيقة وهناك شواهد كثيرة تؤكد ذلك إلا إذا كان الهدف من ذلك كله هو التخلي عن المسئولية والهروب من الحساب عندما يجيء وقت الحساب‏..‏



‏*‏ في يوم من الأيام كانت الثقافة المصرية تمثل الضوء والدور والريادة لكل إنسان عربي‏..‏ كان كتاب مصر هم الأساتذة والمعلمون‏..‏ وكانت جامعات مصر هي المنارة التي تعلم فيها كل أصحاب الفكر والإبداع في عالمنا العربي‏..‏ وكان الطبيب المصري هو الأقدر‏..‏ والمدرس المصري هو الأكفأ‏..‏ والعامل المصري هو المتميز‏..‏ وكان الغناء والمسرح والسينما والصحافة في مصر‏..‏



كان في مصر العقاد وطه حسين وأم كلثوم وعبد الوهاب والسنباطي ويوسف وهبي وطليمات وطلعت حرب وعبود وياسين وأبو رجيله وكانت فيها جامعة القاهرة والأزهر الشريف‏..‏ وفيها الشيخ رفعت ومصطفي إسماعيل وعبد الباسط والحصري والبنا وشعيشع وعلي محمود‏..‏ وكان فيها شلتوت ومحمد عبده وعبد الحليم محمود والغزالي وخالد محمد خالد والشعراوي‏..‏



هذه هي مصر الريادة‏..‏ أما الآن فماذا في مصر الريادة‏'‏ خش علي و‏'‏ بحبك يا حمار‏'‏ وبهلوانات علي الشاشة وعاريات بلا غناء أو تمثيل أو فن‏..‏ ومن قال إن هناك أزياء مصرية تاريخية‏..‏ لقد أخذنا الطربوش سنوات طويلة من الأتراك وأخذنا الجبة والقفطان من المماليك وأخذنا الياشمك من جهات كثيرة وأخذنا البدلة والبكيني من الفرنسيين والإنجليز‏..‏ ولا توجد أزياء مصرية تاريخية علي الإطلاق‏..‏



وحتي في الفن لا توجد منافسة الآن في الفن الجميل ولكن توجد منافسة في العري القبيح‏..‏ حتي إذا ظهر صوت جميل عندنا سرعان ما يترك الغناء ويلجأ إلي العري كوسيلة رواج وانتشار رغم أن العري يمكن أن يكون للجميع‏..‏ ولكن الغناء الجميل من حق الموهوبين فقط‏..‏ كانت مصر هي النموذج والتميز في كل شيء ولذلك سعي إليها الجميع‏..‏ وسوف يسعون إليها آلاف المرات إذا عادت سيرتها الأولي‏..‏



‏*‏ لماذا توقفنا عند التخلف في الأزياء وتركنا مجالات التقدم الرهيب التي تشهدها المدن والعواصم العربية‏,‏ خاصة في دول الخليج التي نلقي عليها بمسئولية ما جري لنا‏,‏ هناك دول أنشأت وعواصم قامت ومدن تم بناؤها وشعوب بدأت رحلتها مع المستقبل في دول الخليج الآن جامعات متقدمة‏..‏ ونظم تعليم حديثة‏..‏ وشعوب تشعر بإنتماء حقيقي لبلادها‏..‏ ويكفي نموذج الشيخ زايد آل نهيان رحمة الله عليه الذي أقام دولة وصنع شعبا في قلب الصحراء‏..‏



من دول الخليج تنطلق الآن فضائيات عربية متقدمة ابتداء بأوربت والجزيرة والعربية ودبي وانتهاء بأعقد القضايا التي تناقشها‏..‏ لقد دفع المصريون ستة بلايين جنيه في مدينة الإنتاج الإعلامي‏..‏ بينما تدار قنوات فضائية ناجحة ومؤثرة من مجموعة مكاتب واستوديوهات صغيرة وعدد قليل من العاملين‏..‏ هل شاهدتم افتتاح دورة آسيا في قطر‏..‏ وهل تابعتم إنشاء جامعة احمد زويل في دول الخليج‏..‏



وهل شاهدتم أداء الممثلين السوريين إخراجا وأداء في مسلسلات رمضان وهل تابعتم صفرالمونديال عندنا‏..‏ وهل تتابعون إنتاج الأردن من الأدوية والمنسوجات‏..‏ وهل تعلمون كم حجم صادرات تونس والمغرب‏..‏ وهل قرأتم عن القمح السعودي والإنتاج الزراعي والصناعي المتقدم في السعودية‏..‏ وهل شاهدتم مدينة رائعة الجمال اسمها دبي هي الآن بكل المقاييس أهم مدينة في العالم العربي وتنافس بمساحتها الصغيرة أكبر العواصم في الساحة العربية بل العالمية وهل رأيتم الإنتاج السوري من الملابس‏..‏ وهل شاهدتم مظاهرات الشعب اللبناني‏..‏ وهل تابعتم انتخابات البحرين التي تمت بلا تزوير لتحصل المعارضة علي‏40%‏ من البرلمان‏..‏ وهل تتابعون موقف حماس وإصرارها علي التضحية أمام السماسرة والمتاجرين وإنتصار المقاومة اللبنانية في الجنوب وصمود الشعب العراقي في ملحمه من ملاحم التاريخ أمام البغي الأمريكي‏..‏



هل تتابعون رجال الأعمال في الدول العربية وما وصلت إليه مكانتهم في الأسواق العالمية وإنجازاتهم في بلادهم‏..‏ لم نقرأ أن واحدا منهم أخذ مليار جنيه من دماء شعبه وهرب‏..‏ ولم نسمع أن حكومة عربية تسترت علي أحد منهم ولم يدخل وزير معدم لا يملك شيئا الوزارة ليخرج منها بالبلايين‏..‏ لم نسمع أن في دول الخليج أطفال شوارع يموتون جوعا علي الأرصفة‏..‏ أو توربيني قتل العشرات رغم أن لدينا عشرات المجالس التي تهتم بالمرآة والطفولة والفقراء وتقيم عشرات المهرجانات والمؤتمرات‏..‏



وبعد ذلك جئنا نتحدث عن الأزياء‏..‏ إذا كان الحساب ضرورة فيجب أن يكون حسابا عسيرا لمن أسقطوا مكانة مصر وريادتها وهيبتها وجعلوها‏'‏ ملطشة‏'‏ للجميع‏..‏ أننا نتحدث عن فراغ عقول نسائنا وشبابنا‏..‏ والسؤال‏:‏ علي من تقع مسئولية هذا الفراغ وكل مسئول جلس في موقعه عشرين أو ثلاثين عاما‏..‏ إن هذا الشباب المتخلف كما يقول هؤلاء جاء إلي الحياة مع تولي هؤلاء المزايدين والهاربين لمسئولياتهم‏..‏ إذا كان الأبناء قد فسدوا فهل ولدتهم أمهاتهم فاسدين وهل هناك إنسان فاسد بالولادة أم أن هناك أبا يتحمل المسئولية وأما أهملت ومجتمع شارك في ذلك كله‏..‏



إن التخلف الثقافي والفكري الذي يدعي البعض أنه جاء إلينا من الخارج هو صناعة مصرية مائه في المائه لأن الخفافيش لن تغني غناء جميلا‏..‏ ونحن تفوقنا كثيرا في نشر الظلام ولهذا انتشرت في سمائنا الخفافيش‏..‏



لماذا لا يتحدث أحد عن المخدرات التي أغرقتنا بها إسرائيل‏..‏ والشذوذ والعري والجريمة الذي أغرقنا به الغرب والفساد الذي غرقت فيه مؤسساتنا حتي النخاع‏..‏



عندما يجلس المسئول في موقعة ثلاثين عاما ويتباكي علي التخلف بين أبناء شعبه فيجب أن يحاسب نفسه أولا ويسألها لماذا امتلأت الأرض بالخفافيش وغابت البلابل ولماذا اظلمت عقول شبابنا وتشوهت أزياء نسائنا‏..‏ وعلي من تقع مسئولية ذلك كله‏..‏



‏*‏ لقد كانت مصر دائما هي الرائدة والمؤثرة وصاحبة الكلمة العليا ولم يكن ذلك قرارا من أحد ولكنه قدر مصر‏..‏ وكانت مصر تقدم ما يؤكد دائما هذه الريادة‏..‏ كانت القرارات المصيرية التي تخص العرب‏,‏ كل العرب‏,‏ تتم في القاهرة‏..‏ وكان التعليم الحقيقي في مدارس مصر‏..‏ وكان الدين الحقيقي في أزهر مصر‏..‏ وكان السلوك المترفع في أهل مصر‏..‏ وكان الإنتاج المتطور علي أرض مصر‏..‏ لم يكن أحد يجرؤ أن يناقش كل هذه المسلمات‏..‏ كانت كلمة من طه حسين هي الحكمة وبيت شعر لشوقي هو الريادة وأغنية لأم كلثوم هي الفن ولحن للسنباطي هو المدرسة‏..‏



وكانت سلوكيات المصريين وترفعهم واكتفاؤهم يسبق كل شيء‏..‏ وكانت أناقة المرأة المصرية بلا ابتذال وشياكة الرجل المصري بلا مبالغة وكنا قبل ذلك كله نحب وطنا جميلا اسمه مصر‏..‏ ولكن لا ينبغي أبدا أن نلوم أحدا لما وصلت إليه أحوالنا وشوارعنا وسلوكيات شعبنا‏..‏ لا ينبغي أن نلقي المسئولية علي أشقاء تغلبوا علي الفقر والتخلف ووضعوا أنفسهم في المكان اللائق بهم كشعوب‏..‏ إن ذلك يؤكد جوانب الفرقة ويسيء لعلاقات تاريخية بيننا وبين أشقاءنا العرب في أي مكان ولا ينبغي أن نردد مثل هذا الكلام صراحة أو تلميحا ولا ينبغي أبدا أن يجيء علي لسان مسئولين يهربون من أخطائهم ويبررون خطاياهم في بإهمال عقل هذا الشعب حتي وصل إلي ما وصل‏,‏ إليه خاصة أن المسئول عندنا يجلس في مكانه سنوات طويلة وبعد ذلك يتساءل‏:‏ كيف حدثت كل هذه الكوارث ولا يعترف بها إلا بعد فوات الأوان‏..‏



أن ما حدث في مصر من مظاهر التخلف في السلوك والأزياء والأدوار والمسئولية صناعة مصرية كاملة الصنع شاركت فيها سياسات خاطئة ومسئولون غابت ضمائرهم وشعب فرط زمانا طويلا في حقه في أن يعيش حياة كريمة تليق به‏..‏ فلا تلوموا إلا أنفسكم‏.‏



‏..‏ ويبقي الشعر

يا سيدي‏..‏ فـلأعترف‏..‏

أن الجواد الجامح

المجنون قد خسر الرهان

وبأن أوحال الزمان الوغد

فوق رءوسنـا‏..‏

صارت ثياب المــلك والتيجان

وبأن أشباه الرجال تحكموا

وبأن هذا العصر للغلمان‏..‏



يا سيدي‏..‏ فـلأعترف

أن القصائد لا تساوي رقـصة

أو‏((‏ هز خصر‏))‏ في حمي السـلـطان

أن الفراشات الجميلـة

لن تقاوم خسة الثعبان

أن الأسود تـموت حزنـا

عندما تتحكم الفئران‏..‏



أن السماسرة الكبار توحشـوا

باعوا الشعوب‏..‏ وأجهضوا الأوطان ولأعترف يا سيدي‏..‏

أني وفيت‏..‏ وأن غيري خان

أني نزفت رحيق عمري

كي يطل الصبح

لكن‏..‏ خـانني الزمن الجبان

وبأنني قدمت فجر العمر قربانـا

لأصنام تـبيع الإفك جهرا

في حمي الشيطان

وبأنني بعت الشباب وفرحة الأيام

في زمن النـخاسة والهوان



ولأعترف يا سيدي‏..‏

أني خسرت العمر في هذا الرهان

وغدوت أحمل وجه إنسان بلا إنسان‏..‏





Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads