هوامش حرة
قضايا المجتمع.. علي الشاشة
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
من الصعب جدا بل من المستحيل أن تجلس أمام شاشات التلفزيون لكي تشاهد أكثر من مائة مسلسل تعرض خلال24 ساعة في شهر رمضان المبارك وإذا أضفنا لذلك كله عشرات الفضائيات التي تقدم البرامج التافهة وتصيب عقول الناس بالتخلف لا تضح أمامنا حجم الكارثة.. وإذا أضفت مهزلة أخري هي هذه الوجوه الغريبة التي تطل علينا كل ليلة تحت مسمي مذيعات ومذيعين لتساءلت من الذي أعطي هذه الوجوه هذه الفرصة وكيف تخلي التلفزيون عن وجوه مصرية محترمة ومثقفة ليفتح الباب لأسماء ووجوه غريبة وما هي أسباب غياب المذيعات المصريات في مايسبيرو وعلي من تقع مسئولية ذلك.. لقد خسرت الشاشة المصرية عددا كبيرا من المذيعات المحترمات ويبدو أن الاحترام في كل شيء لم يعد سلعة مرغوبة..
أعود إلي مسلسلات هذا العام وقد توقفت عند ثلاث منها تتناول قضايا الفساد في مصر ابتداء بسطوة المال وانتهاء بفساد المسئولين وما بينهما شعب صامت..
- في المسلسل الأول' حضرة المتهم أبي' للمبدع محمد جلال عبد القوي وإخراج رباب حسين يطل علينا الفنان القدير نور الشريف وهو المدرس البسيط الذي ينتمي إلي طبقة مقهورة أسمها الطبقة المتوسطة.. أن المدرس يواجه وحده عواصف مجتمع فاسد تجسد في وزير سابق ورجل أعمال حرامي.. وطبقة جديدة أبرمت صفقات التجارة والزواج والمؤامرات والدسائس والبلطجة وأنجبت جيلا ليس أقل فسادا من جيل الآباء..
والخطير في هذا المسلسل أن جيل الآباء الذي نهب وطنا وسرق شعبا لم يترك لأبنائه المال الحرام فقط ولكنه ترك لهم ميراثا كبيرا من السفه والانحطاط في الأخلاق والسلوك.. بمعني أن الأجيال الجديدة القادمة ستكون أكثر ضراوة من آبائها.. وفي هذا المسلسل نحن أمام مجتمع من الأثرياء والمسئولين الذين توحدت غاياتهم ونجحوا في نهب ثروات الوطن بطرق غير مشروعة وقد نجحوا في توريث وظائفهم وأموالهم ومظاهر الانحطاط والأنانية في سلوكياتهم ولنا أن نتصور هذا الحاضر البغيض الذي صنعته هذه الطبقة الجديدة والمستقبل الضائع بين أيدي أبنائهم.
لاشك أن المسلسل صرخة حادة ضد الفساد في معالجة درامية هادئة ومؤثرة وهي تترحم علي طبقة اجتماعية ضاعت في سياق نهب المال العام في مصر المحروسة وأمام سقوط الطبقة المتوسطة وصعود طبقة أخري متوحشة يمكن لنا أن نتصور حاضر وطن منهوب ومستقبل شعب ضائع..
- المسلسل الثاني الذي توقفت عنده هو' سكة الهلالي' للكاتب الساخر الجاد يوسف معاطي والمتألق دائما يحيي الفخراني ومن إخراج محمد فاضل فارس الدراما التلفزيونية هذا المسلسل يفتح النار علي واقع سياسي مشوه من خلال أستاذ الجامعة ومقدم البرامج التلفزيونية ورئيس حزب الفضيلة.. أن هذا الأستاذ الذي التحق بالجامعة بشهادة الثانوية العامة المزورة.. والأب لفتاة جاءت من نزوة مع راقصة في ليلة من ليالي الحرام يمثل صورة رجل السياسة في مصر الآن وحوله عصابة كبيرة من نواب مجلس الشعب وتجار الفضائيات وسماسرة العقارات والأراضي.. والمهربين والأفاقين.. سلسلة طويلة من أصحاب الضمائر الفاسدة الذين ملكوا زمام وطن استباحوا فيه كل شيء.. وفي هذا المسلسل يبدو الزواج الباطل والعلاقة غير المشروعة بين سلطة السياسة والقرار وسلطة المال والثراء وكيف تداخلت العلاقات والمصالح.. وتكاد تلمح في وجوه الممثلين وأدوارهم وجوه مسئولين نراهم كل يوم علي صفحات الجرائد وفي أروقة مجلس الشعب وفي التجمعات الحزبية.. أن المسلسل يحكي قصص الفساد وكيف تستر في السياسة والحصانة واتخذ من السلطة وسيلة للحصول علي المال الحرام والمنصب الحرام..
- في المسلسل الثالث' حدائق الشيطان' وجدت نفسي أمام قصة حقيقية حدثت في صعيد مصر أكثر من مرة صاغها ببراعة محمد صفاء عامر وأخرجها شيخ الدراما العتيق إسماعيل عبد الحافظ وتألق فيها الفنان السوري خالد سليمان وهو مكسب كبير للدراما التلفزيونية في العالم العربي.. هذا المسلسل يعالج أحوال الصعيد في مصر هذا النصف الغائب لسنوات طويلة من مواقع المسئولين والقرار.. شخص واحد يتحكم في رقاب شعب كامل من الغلابة والبسطاء والحراس.. وهنا يتضح غياب الدولة وغياب الحكومة إلا من بعض المرتشين الذين يتسولون علي موائد مثل هذه الشخصيات في الريف المصري ابتداء برشاوي الطعام وانتهاء بالمال الحرام.. في حدائق الشيطان تبدو صورة الصعيد المصري ما بين طاغية ملك كل شيء ومجموعة من البسطاء الذين حرمهم المجتمع من كل شيء.. وتبدو هذه الصورة انعكاسا لواقع اجتماعي شديد الشراسة يعيشه الريف المصري الآن حيث توجد طبقة من المنتفعين واللصوص وتجار السلع ورجال السلطة وطبقة أخري من الفقراء والمعدمين الذين يعيشون علي الكفاف.. وهنا تظهر ضراوة الطغيان في شخص يقتل الناس بالحيوانات المفترسة التي يربيها في بيته ويقتحم بها المجتمع كله حتي يصل إلي قاهرة المعز ويحضر منها طبيبا وأستاذا جامعيا ويطعم بجسده هذا النوع النادر من الحيوانات دون أن تراه حكومة أو تحاسبه سلطة أو تراقبه أجهزة أمن.. أننا هنا أمام غابة صغيرة توافرت فيها كل عناصر الوحشية والضراوة وغياب المشاعر الإنسانية..
- هذه المسلسلات الثلاث تلقي في وجه المجتمع الكثير من قاذوراته السلوكية والأخلاقية والإنسانية.. أننا أمام مجتمع يأكل بعضه بعضا فلا قدسية لشيء ولا قيمة إلا للمال.. ولا سلطان إلا للبطش.. ولا مستقبل إلا للضياع.. ولعل هذه المسلسلات تفتح ملفا خطيرا لا أدري متي نتعامل معه بحسم وجدية وهو ملف الفساد في مصر.. أن الغريب حقا في الأمر أن الصحافة تكتب وهناك حملات صحفية في الصحف المستقلة لا يهتم بها أحد وكأن الدولة تقول لمن يكتبون أنتم تصرخون ونحن نائمون.. وفي جانب آخر تضج شاشات التلفزيون بقضايا كثيرة تتناول ظاهرة الفساد الذي استشري في كل شيء وأصبح يهدد مستقبل شعب كامل.. والغريب أيضا أنه لا أحد يسمع.. ولا أحد يستجيب.. ومنذ سنوات والمسلسلات التلفزيونية بنجومها الكبار تصرخ في البريه وتجسد صورا مخيفة لظاهرة الفساد ولم يتحرك أحد
في كل يوم يقرأ الشعب المصري أجندة أحواله في صحافة جريئة تواجه الفساد بضراوة.. ولكن الدولة هي الوحيدة التي لا تقرأ..
وفي كل ليلة نشاهد برامج حادة تضع يدها علي ظواهر الخلل والفساد في حياتنا ولا أحد يهتم.. وفي عشرات المسلسلات نشاهد واقعنا المصري متجسدا في زواج باطل بين السلطة ورأس المال.. وطبقات اجتماعية مطحونة وأخري مصنوعة.. وتركيبة إنسانية وأخلاقية فاسدة ومختلة.. وقضايا فساد لم يحاكم فيها أحد وأموال لا نعرف أين ذهبت وكيف ضاعت.. ولكن لا حياة لمن تنادي..
وأمام صحافة لا يقرأها مسئول.. وبرامج لا يهتم بها صاحب قرار.. ومسلسلات لا يشاهدها أحد.. يتساءل الإنسان كثيرا وما هي نهاية هذا المسلسل الطويل من اللامبالاة والسلبية وإهمال قضايا المجتمع وهموم الناس..
وماذا بعد كل هذا الصراخ ؟
ويبقي الشعر
يا أيها الجلاد لا تـطلق خيولك في دمي
نيشانـك المهزوم تـاجر من سنين في بقايا أعظـمي
قــد بـعتـني حلـما.. وبـعت العمر أطـلالا
وبعت الأرض إنسانـا بأبخس مغـنم
قد بعت للأصنـام تـوبة مسلم
وأقمت عرسك في سرادق مأتـمي
ودفـنت ضوء الصبح في سرداب لـيل معـتم
كبـلتـني بالصمت
حتـي ماتت الكـلمات حزنـا في فـمي
قـيـدتـني حتـي ظـنـنـت
بأن هذا القـيد يسكـن معصمي
وقـتـلـتـني حتـي ظـنـنـت بأن قتل النـفس
في الأديان غير محرم
فإلي متي.. ؟ ستـظل تركع للضلال
وبين أحضان الخطـايا تـرتـمي
وإلي متـي ستـظل خـلف سجون قـهرك تـحتـمي