هوامش حرة
من أين يبدأ الإصلاح؟
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
لابد أن نعترف بأن الصحافة المصرية تحتاج إلي عملية تطوير شاملة.. حتي تتجاوز هذا المأزق الخطير الذي تعاني منه الآن.. إن الصحافة المصرية في حاجة إلي دماء شابة جديدة تدرك مسئولية الكلمة وتعرف كيف تحترم عقل القارئ.. وإذا كان بناء الصحيفة يستغرق شهورا فإن بناء كاتب يحتاج عمرا.. لقد خسرت الصحافة المصرية في السنوات الماضية الكثير من وهجها أمام غياب المواهب الحقيقية وتسلل عناصر كثيرة بلا موهبة إلي بلاطها.. ومن هنا فهي تحتاج علي المستوي المهني إلي ثورة حقيقية تجدد شبابها.. والصحافة المصرية خسرت الكثير من تقاليدها الراسخة أمام جشع المال وسطوة الإعلانات وتداخل الأدوار..
وقبل هذا.. فإن التطور الرهيب في أساليب الطباعة الحديثة والمنافسة الشرسة مع الإنترنت والفضائيات والوسائل الحديثة في مجال الاتصالات يضع الصحافة المكتوبة أمام اختيار وحيد.. إما تكون أو لا تكون..
لقد سقطت الصحافة المصرية في مجموعة أخطاء.. ونقطة البداية أن تواجه هذه الأخطاء بجدية وحسم حتي تستعيد توازنها ودورها وتأثيرها.. وأولي هذه الخطايا هي التداخل بين التحرير والإعلان.. وهنا ينبغي تحديد المسئوليات.. إن الإعلانات تمثل أهم موارد الصحافة.. وقد تتجاوز في أهميتها ـ كمورد ثابت ـ عمليات التوزيع.. ومن هنا فلا يوجد عاقل ينكر دور الإعلانات وأهميتها.. ولكن هذا الدور ينبغي ألا يصبح تهديدا لدور الصحافة وتأثيرها ومصداقيتها لدي القارئ.. إن قارئ الصحيفة يحرص عليها من أجل كاتب يقرأ له وليس من أجل مندوب إعلانات يحمل لها صفحة إعلانية.. ومن الخطأ أن يتحول المحررون إلي مندوبي إعلانات يتسولون في مكاتب الوزراء والمسئولين بين الحكومة والشركات الخاصة.. ومن هنا ينبغي إعادة النظر في أجور المحررين حتي لا يكون الإعلان هو بابهم الوحيد من أجل الاستقرار المادي.. ولا يعقل أبدا أن يحصل مندوب الإعلانات علي مائة ألف جنيه في الشهر.. بينما يحصل كاتب كبير علي أقل من ألفي جنيه..
من جانب آخر.. فإن مسئولية الصحيفة أن تقدم للقارئ خدمة صحفية وليس من مسئوليتها أبدا أن تقيم مباريات في البنج بونج والكرة الشراب والسباحة علي شواطئ شرم الشيخ والغردقة.. إن هذه الأنشطة لا تتناسب إطلاقا مع دور الصحف العريقة.. ومثل هذه الأنشطة تقوم بها الأندية وشركات السياحة والترفيه.. فليس من مسئولية أي صحيفة أن ترعي الفن الهابط أو تدفع الملايين لشراء الملاعب المتنقلة ولديها مشكلات ضخمة تمس صميم دورها ومسئولياتها المهنية والأخلاقية..
لقد حسم الرئيس مبارك في حديث أخير قضية بيع أو خصخصة الصحف القومية بأن هذا أمر غير مطروح.. وفي تقديري أن بيع هذه المؤسسات الضخمة لن يكون حلا مناسبا لأزماتها المالية.. وأن الأفضل أن تسعي هذه المؤسسات في ظل قياداتها الجديدة إلي تجاوز هذه الظروف الصعبة من خلال سياسات مالية وإدارية سليمة بعيدا عن المبالغة والإسراف في النفقات مع السعي إلي زيادة مواردها..
إن الصحف المصرية ثروة قومية ينبغي أن تحافظ عليها الدولة.. خاصة أن هذه الصحف بحكم الدور والمسئولية تمثل حصنا من حصون أمننا القومي التي ينبغي عدم التفريط فيها أو التهوين من دورها.. لقد كانت الصحف المصرية أكثر الصحف العربية تقدما وتطورا علي المستوي المهني.. وكانت بحكم التاريخ والدور تتمتع بمجموعة من القيم الأخلاقية التي منحتها المصداقية في الشارع العربي وليس الشارع المصري وحده.. كما أن هذه الصحف كانت تمثل منابر ثقافية وفكرية فتحت أبوابها لكل التيارات مهما كانت درجة الخلاف بينها.. كما أن صحف مصر كانت الأكثر تطورا من حيث الإخراج وكانت في مصر مدارس صحفية متنوعة علمت المنطقة العربية كلها كيف تكون الصحافة الجادة والكلمة المستنيرة.. والمطلوب الآن تخريج أجيال جديدة من الأقلام الشابة المتميزة وتوفير المناخ الصحفي المناسب لإعطاء كل صاحب موهبة حقه في الظهور والتميز.. ولن يكون ذلك إلا من خلال فتح الأبواب أمام وجوه جديدة تنضم إلي مسيرة العمل الصحفي.. خاصة أن العمل الصحفي للأسف الشديد شهد في السنوات الأخيرة عملية احتكار كاملة لأبناء العاملين في الصحف حتي وإن كانوا بلا مواهب أو قدرات.. وإذا كان البعض يري توريث المؤسسات الصحفية للعاملين فيها.. فإن توريث مهنة الصحافة لأبناء الصحفيين عمل جائر وغير مشروع.. ولعل حالة التدني في مستوي الكتابة الصحفية من أهم مظاهر هذه التجاوزات في بلاط صاحبة الجلالة..
نأتي إلي نقطة أخري علي درجة كبيرة من الأهمية وهي ضرورة تحديد شكل العلاقة بين المؤسسات الصحفية ومؤسسات الدولة أو المجتمع المدني.. إن مسئولية الصحافة تتعارض في أحيان كثيرة مع دور الحكومة أو رأس المال.. حتي وإن جمعت بينها أهداف عامة تجاه المجتمع.. ولكن دور الصحافة في الرقابة علي عمل السلطة التنفيذية يتطلب وجود مساحة تفصل بين مسئوليات الوزير ورئيس التحرير.. فما بالك إذا أصبح رأس المال طرفا ثالثا في هذه المعادلة.. إن رأس المال الذي يقدم الإعلانات والسلطة التي تقدم الدعم والنفوذ يمكن أن يمثلا أوراق ضغط كثيرة علي حرية الصحف ومدي قدرتها علي أداء دورها الحقيقي بكامل إرادتها.. ومن هنا يجب أن تبقي تلك المساحة بين أدوار هذه الأطراف الثلاثة منعا للشبهات وتجنبا لنتائج تفتقد الكثير من الشفافية.. إن للصحافة دورها وللسلطة دورها ولرأس المال مسئولياته.. وينبغي ألا تتداخل الأدوار مهما كانت مصالح العاملين هنا أو هناك.. لقد شهدت السنوات الماضية ابتكار لغة جديدة للتعامل والحوار بين السلطة ورأس المال والصحافة.. وهي للأسف الشديد لغة قامت علي تبادل المصالح والأدوار من حيث النفوذ والثروة..
لقد أخطأت الدولة خطأ فادحا وهي تترك مؤسساتها العريقة تدار سنوات طويلة كعزب خاصة في أساليب الإنفاق والإسراف الذي تجاوز السفه في إنشاء حمامات الجاكوزي وغرف النوم في المكاتب والمال السايب الذي تسرب إلي المحاسيب والأصدقاء وشلل الأنس.. بينما آلاف العاملين في بلاط صاحبة الجلالة يعانون الحاجة وسوء الأحوال..
لقد تركت الدولة بعض المسئولين في الصحف يمارسون كل ألوان التهديد والابتزاز للمسئولين في الدولة في مواقف تجاوزت في تهديداتها ولغتها كل تقاليد العمل الصحفي أخلاقيا ومهنيا.. بل إن الأكثر من ذلك أن المواطن المصري دفع ثمنا غاليا لإعلانات وهمية ومشروعات كاذبة.. وقد كانت كارثة شركات توظيف الأموال أكبر دليل علي هذا العبث الصحفي.. وأكبر كذبة روجتها الصحافة بدعم من الدولة.. لقد كانت هناك تقاليد ثابتة تفرق بين الإعلان والمادة التحريرية بحيث توضح الصحيفة الفرق بين الاثنين.. وأن هذا موضوع تسجيلي وإعلان مدفوع الأجر.. وهذا موضوع صحفي.. وينبغي أن يعود هذا التقليد مرة أخري إلي بلاط صاحبة الجلالة..
وتبقي بعد ذلك قضية حبس الصحفيين وهناك وعد من الرئيس مبارك بأن يتم حسم هذه القضية في الدورة البرلمانية الجديدة.. وينبغي أن يكون هناك التزام مشترك بين نقابة الصحفيين والدولة في ضرورة ترسيخ واستعادة مجموعة القيم التي تحكم لغة الخطاب والتجاوزات في جرائم النشر.. وأن يكون للنقابة دورها ومسئوليتها في تحديد صورة جديدة للعمل الصحفي الملتزم.. إن حبس الصحفيين لا يتناسب أبدا مع السعي إلي إيجاد مناخ ديمقراطي حقيقي.. كما أن التجاوز في لغة الخطاب والتهجم علي خلق الله تحت دعوي حرية الصحافة أمور يجب حسمها من البداية حتي لا نجد أنفسنا أمام دوائر متلاحقة من التجاوزات.. ولا شك في أن الفترة المقبلة سوف تتطلب سياسة جديدة من الدولة تجاه إصدار الصحف لأن الإجراءات الحالية تجعل إصدار الصحيفة معجزة من المعجزات.. إلا إذا أخذ الإنسان أول طائرة إلي قبرص ليحصل علي ترخيص الصحيفة في ساعات وليس سنوات..
من جانب آخر.. فإن الدولة يجب أن تحدد شكل العلاقة بين مجلس الشوري والمؤسسات الصحفية وأن تعيد النظر في سياسة اختيار القيادات الصحفية وفترة البقاء في مناصبها.. وقبل ذلك كله فإن الجهاز المركزي للمحاسبات يجب أن يراقب النشاط المالي للمؤسسات الصحفية بجدية أكبر وأن يضع لذلك قواعد وأسس تضمن حماية المال العام وتحمي حقوق العاملين في هذه المؤسسات..
تبقي بعد ذلك قضية الفصل بين الإدارة ورئاسة التحرير.. ولا شك في أن ذلك سوف يساعد كثيرا علي تحديد صورة العلاقات وتحديد المسئوليات لأن التداخل بين الإدارة والتحرير كان دائما مصدر إزعاج للاثنين معا.. إن إدارة الصحيفة كإعلانات وموارد ووظائف ومطابع وتوزيع تختلف في طبيعتها عن إدارة الصحيفة خبرا ومقالا وسياسة عامة..
بقيت بعد ذلك نقطة أخيرة وهي المنافسة التي لا مفر منها بين الصحف المستقلة الصاعدة والصحف القومية الراسخة.. وفي تقديري أن ساحة الصراع ستكون في جانبين رئيسيين هما درجة الحرية ودرجة الاقتراب من هموم الشارع.. وفي الصحف المستقلة لا يوجد سقف للحرية حتي الآن وفي الصحف القومية آلاف المحاذير والحسابات.. والصحف المستقلة مهمومة بقضايا الناس.. والصحف القومية مهمومة بقضايا الدولة.. وما بين هموم الناس وهموم الدولة وسقف الحريات ستكون المعارك المهنية والأخلاقية المقبلة ما بين صحف تبحث عن مستقبل وصحف أخري تدافع عن تاريخ.. ولا أحد يدري من الفائز في هذا السباق؟!.. من يملك التاريخ أو من يسعي إلي المستقبل؟.. أو من يستطيع أن يجمع الاثنين معا؟..
ويبقي الشعر
عشقت بعينيك نهرا صغيرا ....... سري في عروقي تلاشيت فيه
حملت إليه جميع الخطايا .......... وبين ذنوبي تطهرت فيه
رأيتك صبحا وحلما وبيتا ......... رأيتك كل الذي أشتهيه
تجاوزت عن سيئات الليالي ...... وسامحت فيك الزمان السفيه
