هوامش حرة
هموم صاحبة الجلالة
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
زادت هموم الصحافة واتسعت دوائر مشكلاتها وقضاياها وهي التي كانت دائما الملاذ الآمن لكل صاحب هم.. والباب المفتوح لكل صاحب قضية.. وكانت دائما حلالة المشكلات لكل من أغلقت الأيام أبواب الرجاء في وجهه.. هموم كثيرة تحاصر الآن صاحبة الجلالة من كل اتجاه وفي أحيان كثيرة سقط تاجها أمام مغامرات غير محسوبة.. وتصرفات غير مسئولة وأناس باعوا أنفسهم للشيطان.. والآن أصبحت الصحافة حديث الناس ليس بسبب انتخابات نقيبها أو معارك وانقسامات أبنائها ولكن بسبب غبار كثيف يحاصرها الآن من كل جانب..
ولا شك في أن هناك أسبابا كثيرة تقف وراء أزمة الصحافة المصرية.. ولا نريد الآن أن نتحدث عن الماضي وعن إنجازات كثيرة حققتها الصحافة من خلال وعي كامل بمسئولياتها وأجيال متعاقبة من أبنائها شاركت بجدية وفهم في إيقاظ هذه الأمة وتحريك مشاعرها وتنوير عقولها ووضعها علي الطريق الصحيح.. كانت هناك أجيال أدركت هذه المسئولية ولم تفصل يوما بين الصحافة الدور والرسالة والصحافة الإمكانات والوسائل..
وقد سعت هذه الأجيال إلي تحديث الصحافة المصرية والوصول بها إلي أرقي درجات التقدم الفني والمهني طباعة وإخراجا.. ولكن هذه الأجيال كانت تدرك أكثر من غيرها دور الصحافة الكلمة والموقف والمسئولية.. وكانت علي وعي كامل بأن المطابع الحديثة لا تصنع كاتبا.. وأن ملايين الإعلانات لا تبني فكرا.. وأن المكاتب الفخمة لا تنير عقولا.. هذه الأجيال من الصحفيين وضعت أساسا قويا لصحافة تحترم القارئ وتقدر مسئوليتها تجاه الوطن وتضع دائما خطوطا حمراء في علاقتها بالسلطة حتي لا تفقد هامش الحريات المتاح لها..
ورغم كل مظاهر تقييد حرية الصحافة في النشر أو الخبر أو الرأي إلا أن الصحافة المصرية كانت تتمتع بالكثير من التقاليد الراسخة من حيث الشفافية والإحساس بالمسئولية واحترام الكلمة.. هذه التقاليد كانت تمثل الرصيد الحقيقي للصحافة المصرية قبل أن تغزوها طموحات الثراء والمال وفساد السلطة..
ولا شك في أن هناك أمراضا كثيرة تناقلتها الصحافة وتسربت إليها من المناخ العام.. في مقدمتها الانقسامات الفكرية والأيديولوجية التي استثمرتها السلطة لضرب المثقفين وتشويه أهدافهم وصورتهم أمام أنفسهم وأمام المجتمع.. وما بين تقسيمات اليمين واليسار والتقدمي والديني.. والعلماني.. دارت معارك كثيرة كانت نقابة الصحفيين من ضحاياها.. وكانت الكلمة الحرة هي أكثر أطرافها تضررا.. وللأسف الشديد أن هذه الأمراض مازالت حتي الآن تحكم الكثير من المواقف في بلاط صاحبة الجلالة..
وكان الخطر الأكبر الذي هدد الصحافة المصرية هو علاقتها برأس المال ولا شك في أن المال عنصر أساسي في مهنة الصحافة.. خاصة أن هناك تطورات خطيرة شهدتها مجالات الطباعة والإخراج والصور والأقمار الصناعية.. وهناك تكنولوجيا متطورة في العمل الصحفي.. وكان من الممكن أن تتوقف علاقة الصحافة مع رأس المال في ملاحقة هذه التطورات والاستفادة منها علي المستوي المهني.. ولكن رأس المال استطاع أن يشوه جوانب أخلاقية كثيرة في سلوكيات صاحبة الجلالة وأن يقتحم تقاليدها العريقة ويكون سببا رئيسيا في اختلال دورها ومسئوليتها.. ومن هنا تحول حلم الصحفي من أن يكون كاتبا صاحب دور أو رسالة إلي إنسان يبحث عن الثراء بكل الوسائل المشروع منها وغير المشروع..
وهنا استطاع رأس المال أن يوجه ضربة قاضية إلي تقاليد الصحافة العريقة من خلال سلاح مدمر هو الإعلانات.. ولا يوجد إنسان عاقل ينكر أهمية الإعلانات في تمويل العمل الصحفي.. ولكن الإعلانات كانت لها شرائحها وطقوسها.. وأيضا لها رجالها بعيدا عن إدارات التحرير في المؤسسات الصحفية.. وفي السنوات الأخيرة أصبحت إدارات التحرير تدار من مكاتب الإعلانات وتحول المحررون إلي أبواق إعلانية قبيحة.. وفقدت الصحافة المصرية أجيالا من الصحفيين الشباب الذين ضاعت مواهبهم وقدراتهم في سراديب الوكالات الإعلانية والصفحات مدفوعة الأجر.. وقد شجع المسئولون في الصحف المصرية هذه التوجهات أمام سياسة البحث عن الموارد.. وقد جاء ذلك كله علي حساب الأداء المهني للصحف التي تراجعت كثيرا من حيث مستوي المادة ودرجة المصداقية والحرص علي القارئ..
لقد كان الإنجاز الأكبر والنجاح الأعظم لأي صحيفة أن تزين صفحاتها بأسماء كتاب جدد يضيفون لها قارئا جديدا ويدفعون في شرايينها دماء شابة واعدة.. ولم يكن القارئ ينظر أبدا إلي إعلانات الصحيفة وكيف زادت.. ولكنه كان ينظر دائما إلي قائمة كتابها ومبدعيها ومفكريها.. لأن هذا هو المقياس الحقيقي للنجاح والتميز..
وتسربت لعنة المال من وكالات الإعلانات إلي صالات التحرير وعقول الشباب الباحث عن الثراء وليس الدور والكلمة.. وهنا أيضا تدخلت السلطة ولعبت دورا خطيرا في تشويه الصحافة المصرية.. أذكر يوما أنني كنت أجلس مع مسئول كبير وكنا نتحدث عن مشكلات الصحافة المصرية وقلت له يومها إن السادة الوزراء وكبار المسئولين في الدولة يدفعون مرتبات ثابتة لعدد من الصحفيين تحت مسميات كثيرة وإن هذا يعني أن الدولة تشارك في إفساد صحافتها.. ولم ينف المسئول الكبير ما قلت وإن كان قد تعجب منه كثيرا.. وما بين لعنة الإعلانات ورشاوي السلطة وأحلام الثراء غير المشروع تاهت الصحافة المصرية في سراديب العجز وغياب المسئولية..
والأغرب من ذلك كله.. هو مبدأ تبادل الهدايا بين الصحافة والسلطة.. وهو مبدأ خطير.. خاصة أن الهدايا تجاوزت في أحيان كثيرة دائرة المجاملات العادية في المناسبات ودخلت مناطق أوسع وأكبر هي أقرب إلي دائرة الرشوة.. وكان هذا مبدأ خطيرا.. سواء تمثل في هدايا الدولة للصحافة أو هدايا الصحافة للدولة.. خاصة أن هذه الهدايا التي تقدمها الصحافة من دم العاملين فيها ومن ملايين تراكمت في شكل ديون علي مؤسسات مفلسة.. ودخلت في هذا الإطار أيضا حالات البذخ والإسراف التي شهدتها أروقة صاحبة الجلالة.. ابتداء بالنفقات الرهيبة والسفريات وبدلات السفر وحمامات الجاكوزي والسيارات المصفحة والحفلات والمهرجانات والحراسات.. وقد ساعد علي ذلك كله مناخ عام اتسم بالإسراف في كل شيء وعدم الرقابة أو الحساب أو حتي المتابعة..
يضاف إلي ذلك كله فتح مجالات وأنشطة جديدة أمام المؤسسات الصحفية تتعارض في أشكالها وأهدافها ومظاهرها عن الهدف الحقيقي للصحافة.. وقد ترتب علي ذلك حدوث خسائر مالية كبيرة وإهمال للنشاط الأساسي للمؤسسات الصحفية ودورها الإعلامي والثقافي والتنويري.. وسوف يبقي الرأي والخبر والحوار الهدف الأول الذي تسعي إليه الصحيفة أمام منافسة ضارية من الوسائل الإعلامية الحديثة وفي مقدمتها الإنترنت والفضائيات التي تلاحق الأحداث كل دقيقة..
والغريب أن هذا المناخ الذي شهد هذا التحول الرهيب في الصحافة المصرية كان علي حساب دورها ومسئوليتها.. في الوقت الذي ظهرت فيه في العالم العربي صحافة جديدة استطاعت أن تكون منافسا قويا للصحافة المصرية.. ثم ظهرت الصحف المستقلة بإمكاناتها الضئيلة لتنافس المؤسسات العريقة وتهز بعنف تاريخها الطويل..
ولا شك في أن الصحافة المصرية خسرت بسبب هذه العشوائيات وهذا التخبط في الأهداف والسياسات والبرامج.. لقد خسرت الصحافة المصرية في رحلة التراجع تميزها علي المستوي المهني الذي أعطي المال الصدارة وحرم المواهب من فرصتها في التفوق.. وعلي المستوي الأخلاقي خسرت الصحافة الكثير أمام غياب الشفافية ومواكب المفسدين.. وعلي مستوي القارئ تراجعت الصحافة من حيث درجة التأثير والمصداقية.. وقبل هذا كله كان لبقاء القيادات الصحفية فترات طويلة في مواقعها آثار سيئة علي الصحافة المصرية بصورة عامة.. وما هو الحل!.. هذا حديثنا القادم..
ويبقي الشعر
حزين غنائي فهل تسمعين ............. بكاء الطيور علي المقصله
أنا صرخة من زمان عريق ............... غدت في عيون الوري مهزله
فكيف انتهي المجد للباكيات ........... ومن أخرس الحق من ضلله
ومن قال إن البكا كالصهيل ............ وعدو الفوارس كالهروله
سلام علي كل نسر جسور .............. يري في سماء العلا منزله
