وماذا بعد الفوضي ؟

هوامش حرة

وماذا بعد الفوضي ؟

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة



لا أؤمن بالفوضي الخلاقة‏..‏ ولا أعتقد في الانفلات العاقل‏..‏ لأن الفوضي عمل وسلوك خارج النظام العام الذي يحكم سلوكيات الناس والانفلات خروج علي منظومة القيم التي تمثل القواعد الملزمة لأخلاقيات البشر‏..‏ وحينما يعترف مجتمع من المجتمعات أن الفوضي عمل إيجابي فهذا خلل رهيب‏..‏ وعندما يصبح الانفلات سمة اجتماعية وسلوكية فإن ذلك يعني أننا أمام بوادر كارثة وأن بدت في الأفق مجرد دخان كثيف لا نري خلفه نارا‏..‏ والأزمة الحقيقية في مصر الآن أننا أصبحنا أكثر قبولا لتقليد الآخرين حتي أن تعارض ذلك مع أخص خصائصنا فنحن أمريكيون وخليجيون وأوربيون ومن كل لون حتي وإن كان ما نفعله خارج السياق



والغريب في الأمر أن مصر كانت من أوائل الدول التي استجابت لدعوي أمريكية غريبة أطلق عليها الفوضي الخلاقة وهي مصطلح روج له البعض علي أساس أن ذلك قد يحمل بشائر عمليات إصلاحية يريدها البعض ولا تهم البعض الأخر‏..‏ والغريب أن نصدق مثل هذه المصطلحات في دولة قامت منذ ألاف السنين علي أسس من المركزية الواضحة التي جنحت بها كثيرا إلي مناطق الاستبداد‏..‏ ولهذا يصبح الأمر غريبا إذا سعينا إلي تطبيق مثل هذا الشعار لأنه يفتقد أبسط القوانين التي تحكم العقل وتوجه السلوك‏..‏ ولكن للأسف الشديد ظهرت في الأفق في الفترة الأخيرة ظواهر كثيرة تؤكد أن الفوضي غير الخلاقة أصبحت الآن خطرا حقيقيا في الشارع المصري‏..‏ وهناك أكثر من نموذج سواء في مواقف الدولة أو سلوكيات الناس يعكس حالة الانفلات التي أصبحت الآن تهدد كل شيء والأغرب من ذلك أننا تخلينا طواعية عن مجموعة من القيم كانت تحكمنا ودخلنا في دائرة التقليد الأعمي دون وعي أو إدراك‏..‏


-‏ حالة الفوضي التي تعاني منها بورصة الأوراق المالية في مصر تؤكد ذلك الانفلات الرهيب في أسعار الأسهم والهبوط الذي وصل إلي أكثر من‏50%‏ بالنسبة لعشرات الأسهم أليس هذا دليلا علي حالة ارتباك في الأسواق يمكن أن تصل إلي مرحلة من مراحل الفوضي والانفلات‏..‏ سوف يقول البعض ان ما حدث في البورصة المصرية حدث في أسواق أخري عربية وخليجية والفارق هنا كبير جدا بين أسواق يحكمها سلوك رأسمالي حقيقي ممثلا في مجموعة أفراد منذ سنوات بعيدة‏..‏ وأسواق تحكمها المركزية والسلطة حتي وان رفعت شعارا براقا عن الحرية الاقتصادية‏..‏ ولهذا فإن ما حدث للبورصة المصرية يحتاج إلي وقفة صادقة نقول فيها للناس بصراحة ماذا حدث‏..‏ ولماذا حدث‏..‏ وما هو الحل



إن البورصة المصرية ليست وول ستريت وليست سوق المناخ في الكويت ولكنها تجربة جديدة صنعتها الدولة وهي المسئولة عنها فلا هي تتمتع بالحرية الضخمة في أسواق أمريكا ولا هي تملك المال الكثير مثل المستثمرين في أسواق الكويت ودول الخليج‏..‏


-‏ من حالات الفوضي غير الخلاقة أيضا أن تشهد جميع الأحزاب السياسية في مصر نكسات متلاحقة بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة‏..‏ لا يوجد حزب واحد إلا وشهد صراعات ومنازعات ومعارك ابتداء بما حدث للوفد العريق وانتهاء بما حدث لحزب الغد الوليد‏..‏ ولا أحد يعرف تماما لماذا حلت كل هذه اللعنات بالأحزاب المصرية رغم أنها جميعا وبلا استثناء تعاني من أنيميا شعبية حادة ينبغي أن تبحث لها عن علاج‏..‏



لقد وصلت حالة الفوضي في الأحزاب المصرية إلي درجة من درجات الانفلات غير المنطقي‏..‏ والغريب أن يحدث ذلك في فترة عصيبة كنا نتحدث فيها عن بداية حقيقية للإصلاح السياسي‏..‏ وجاءت مواكب الفوضي لتعيدنا جميعا إلي المربع الأول وبذلك دخلت أحزابنا السياسية في حالة من الارتباك والعجز لا يعرف أحدا نهاية لها‏.‏


-‏ من شواهد الفوضي غير الخلاقة أيضا ما يحدث لصاحبة الجلالة‏..‏ وبقدر فرحتي بالصحافة المستقلة في شجاعتها ومواجهتها لمواكب الفساد بقدر خوفي عليها من أيادي كثيرة تنتظر الفرصة للبطش بها‏..‏ وأرجوا أن يكون لفرسانها الشباب الذكاء الكافي لتفويت هذه الفرصة لأن هناك مقصلة أقامها ترزية القوانين وحملة المباخر للعصف بهذه التجربة الوليدة‏..‏ إن الصحافة المستقلة في مصر نقطة ضوء بكل المقاييس وأرجوا ألا تعطي الفرصة لسماسرة الظلام لإجهاضها‏..‏ وهذا يتطلب قدرا من الحكمة في لغة الحوار والخطاب والمناقشة وأنا علي يقين أن هؤلاء الشباب قادرون علي تجاوز هذا الاختبار الصعب خاصة أن هناك تجاوزات لا يقبلها أحد في لغة الخطاب الصحفي‏..‏


-‏ من أخطر مظاهر هذه الفوضي أيضا ظاهرة الدعاة الجدد علي شاشات الفضائيات والصحف والمنابر‏..‏ وأنا شخصيا أحمل تقديرا عميقا لرجال الدين‏..‏ وأري من بينهم نماذج رائعة في العلم والصدق والتواضع ولكنني أتحدث عن تجارة جديدة باسم الدين تبدأ بالجن والعفاريت واستخدام الآيات القرآنية في غير مواضعها وتنتهي بتفسير الأحلام وكل هذه الخزعبلات التي نملأ بها عقول الناس‏..‏



ان البعض يستغل ظروف شبابنا الضائع وهو يبحث عن ملاذ نفسي آمن في رحاب مسجد أو كلمات فقيه أمام بطالة قاتلة‏..‏ وجهل بالدين‏..‏ وظروف اقتصادية سيئة‏..‏ وللأسف الشديد ان هناك من يحاول استغلال ذلك كله ابتداء بقضية غريبة حول حجاب الفنانات واختفائهن ثم عودتهن بملايين الجنيهات في مسلسلات أخري والسؤال‏..‏ لماذا انسحبن‏..‏ ولماذا رجعن ولماذا كل هذه الضجة الإعلامية سواء في الانسحاب أو الرجوع‏..‏ ان ذلك يدخل أيضا في باب الفوضي‏..‏ انها فوضي باسم الدين‏..‏ وفوضي في أشياء لا ينبغي أبدا أن تفقد قدسيتها في قلوب الناس وضمائرهم‏.‏ ولا أحد يعرف كيف نعيد الانضباط إلي الشارع الديني بعد أن تسربت فيه أسماء غريبة تفتي وتحرم وتحلل وتفسر الأحلام وهي لا تعرف شيئا عن دينها‏.‏


-‏ من مظاهر الفوضي أيضا ما حدث من مآس هذا العام في امتحانات الثانوية العامة وكأن وزارة التربية والتعليم بينها وبين التلاميذ ثأر قديم‏..‏ لماذا كل هذه القسوة وكل هذا العنف‏..‏ وكلنا آباء في النهاية‏..‏



من جوانب الفوضي أيضا موقف غريب من مدرس كفر الدوار الذي وضع سؤالا فيه أبيات من الشعر تطالب بإنصاف المدرسين من القوانين الجائرة التي تحرمهم من حقوقهم‏..‏ وكانت صدفة غريبة أن تكون هذه الأبيات من أحدي قصائدي عنوانها من قال ان النفط أغلي من دمي حول ما يحدث في العراق الشقيق وقام المدرس بتغيير بعض الكلمات فيها لتتحول إلي شكوي من أحوال المدرسين ولا أعتقد أن الرجل تجاوز أو أخطأ حتي يتم تحويله للنيابة ويجري التحقيق معه‏..‏



المأساة الثانية عندما ألغت وزارة التربية والتعليم امتحان احدي الطالبات لأنها كتبت موضوعا في التعبير انتقدت فيه الرئيس بوش الذي يلعنه الآن شعبه في كل صلاة وحرمت وزارة التربية الطلبة من الامتحان‏..‏ بعد ذلك كله كيف نطلب من المدارس تخريج أجيال واعية تدرك قيمة الحرية والرأي الآخر إذا كنا نمنع المدرس من مجرد الشكوي‏..‏ والتلميذ من أن يعبر عن رأيه‏..‏



هذه بعض مظاهر الفوضي في حياتنا ويبدو أننا تصورنا أن هذا المصطلح الغريب نوع من أنواع السندوتشات أو الوجبات السريعة ولهذا تم تداوله في كل القطاعات بسرعة غريبة ابتداء بالبورصة والأحزاب وانتهاء بامتحانات الأولاد والتجارة باسم الدين والحجاب من أجل هذا لن تكون الفوضي أبدا عملا خلاقا ولن يصبح الانفلات سلوكا عاقلا وكم ذا بمصر من المضحكات والله يرحم عمنا المتنبي‏..‏



ويبقي الشعر





اغضب‏..‏ ولا تسمع أحد‏..‏

قالوا بأن الأرض شاخت‏..‏ أجدبت

منذ استراح العجز في أحشائها

نامت‏..‏ ولم تنجب ولد



قالوا بأن الله خاصمها‏..‏ وأن رجالها

خانوا الأمانة‏..‏ واستباحوا كل عهد

الأرض تحمل فاتركوها الآن غاضبة ففي أحشائها

سخط تجاوز كل حد



تخفي أساها عن عيون الناس تنكر عجزها

لا تأمنن لسخط بركان خمد

لو أجهضوها ألف عام‏..‏

سوف يولد من ثراها



كل يوم ألف غد

 
Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads