هوامش حرة
من يحمي هذه الثروة ؟
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
لا يوجد مثقف عربي حقيقي إلا وكانت له ذكريات طويلة مع جامعة القاهرة خاصة في عصرها الذهبي, وإذا قابلت يوما واحدا من المثقفين العرب الاصلاء فسوف تسمع منه حكايات كثيرة عن أيامه في جامعة القاهرة ابتداء بهذه الكوكبة النادرة من أساتذتها الكبار وانتهاء بكلياتها العريقة التي قدمت للعالم العربي أبرز رموزه, عندما كانت الجامعة الوحيدة لأكثر من مائه مليون عربي..
وعندما كنت أتابع في الفترة الأخيرة ما ينشر حول غياب جامعاتنا تماما عن قائمة أفضل الجامعات في العالم كنت أتساءل وأين جامعة القاهرة بكل رصيدها العلمي والثقافي والتاريخي.. وكانت الإجابة أحاديث الماضي لا تعني الكثير في لغة الحاضر خاصة إذا كان محبطا وكئيبا..
ولا أدري لماذا يحملني الحنين إلي جامعة القاهرة وكلما مررت أمامها أو ذهبت في زيارة أو ندوة أحسست أن الزمن يطاردني وأنني لم ابرأ بعد من عشق قديم لهذا المكان رمزا ودورا وقيمة.. وكنت أمني النفس دائما ومازلت أن تعود جامعتنا العريقة لمكانها ومكانتها من حيث الدور والأهمية وأن أري مدرجاتها ومبانيها وحدائقها كما كانت في يوم من الأيام.
كان أخر عهدنا بجامعة القاهرة طلابا في ربوعها في بداية عام68 وقوات الأمن المركزي تحاصرنا في قاعة المحاضرات الكبري.. كانت المرة الأولي التي يظهر فيها هذا الشبح الذي ظل يطاردنا ما بقي لنا من سنوات العمر.. وكبرنا نحن.. وما غاب الشبح.
وقد يكون السؤال.. ولماذا تكتب اليوم عن جامعة القاهرة.. أقول.. في الجامعة مكان عزيز من أجمل الأماكن وأقربها إلي قلبي وهي مكتبة الجامعة.. كنت أشعر وأنا أتسلل في طرقات المكتبة أنني أعيش أكثر من زمان.. وأقرأ التاريخ كله.. وأجالس أشخاصا أحببتهم وعشت معهم حتي وإن لم يجمعنا زمان واحد.. مازلت أذكر مخطوطا صغيرا عمره يزيد علي800 سنة هو عبارة عن ديوان يضم أشعار مجنون ليلي.. ومثل هذا الديوان مئات وألاف من المخطوطات النادرة.. هذا بخلاف ألاف الكتب والمجلدات والدوريات والقواميس..
هذه الثروة التي لا تقدر بثمن سوف تنتقل قريبا إلي المبني الجديد لمكتبة جامعة القاهرة داخل الحرم الجامعي.. وهنا أجد أمامي بعض الأسئلة.. كيف سيتم نقل هذه الثروة ومن الذي سيقوم بهذه المهمة.. وما هي ضمانات الانتقال الآمن لكل هذه المطبوعات وكيف نحافظ عليها.. وهل شكلت الدولة المصرية ولا أقول الجامعة فقط لجانا لكي تقوم بهذه المهمة أم سنتركها لأمناء المكتبات وبعض الموظفين وبعد ذلك تحدث الكارثة ؟!.
وحتي أوضح أهمية القضية أقول.. إن في مكتبة جامعة القاهرة300 ألف كتاب من بينها186 ألف كتاب باللغات الأجنبية.. وهي كتب تراثية ونادرة ومنها نسخ وحيدة.. وفي مكتبة الجامعة أيضا111 ألف كتاب عربي في كل المجالات العلمية والأدبية والإنسانية وفيها44 ألف رسالة جامعية باللغات الأجنبية و11 ألف رسالة جامعية عربية وفيها2000 دورية.. وأخطر ما في المكتبة16 ألف مخطوط باللغات العربية والتركية والاوردية.. وفي مكتبة جامعة القاهرة هدية الأمير إبراهيم حلمي المتوفي سنة1927 وهي مكتبة نادرة أهدتها أسرته بعد وفاته بعام واحد في فبراير1928 في حفل ملكي كبير حضره الملك فؤاد الأول.. وتحتوي مكتبة الأمير علي كتب باللغات العربية والفارسية والتركية, ومنها المجموعة الكمالية التي تدرس حوض النيل وتقع في30 جزءا بجانب الخرائط.. وفي هذه الهدية أيضا النسخة الأصلية من كتاب وصف مصر في30 جزءا وهو الكتاب الذي أعدته الحملة الفرنسية عن مصر وهو من أخطر الوثائق في تاريخ مصر الحديث.. وفي مكتبة جامعة القاهرة أرشيف ضخم من البومات الصور التي تغطي قرنا كاملا من الزمان وفيها أعداد هائلة من المسبوكات والهدايا.. التي انضمت إلي المكتبة عبر سنوات طويلة ومنذ افتتاحها في عام1932. ومازلت أذكر رغم مرور السنوات القاعات الرئيسية في المكتبة العريقة حيث توجد قاعة للدراسات الإنسانية والاجتماعية.. وأخري للرسائل الجامعية.. وثالثة للدوريات والمشكلة الحقيقة في الوثائق فلا أحد يعرف ماذا حدث لها الآن لأن بعضها ينتشر في الأدوار السفلية من المكتبة حيث المياه الجوفية والرطوبة والزمن الثقيل.
هذا الكنز الحضاري والتاريخي يحتاج فورا إلي مجموعة إجراءات أضعها بكل أمانة أمام المسئولين في وزارة التعليم العالي وجامعة القاهرة:
أولا: ضرورة تأمين نقل هذه الثروة بأساليب حديثة حتي لا تتعرض للتلف في اللوريات والسيارات القديمة.
ثانيا عمل حصر شامل لكل مقتنيات المكتبة التاريخية من الكتب والمراجع والوثائق والدوريات.
ثالثا: وضع ضوابط قاسية في نقل محتويات المكتبة بتنسيق كامل بين أجهزة الدولة أمنيا فكريا و سياسيا حتي لا نجد أنفسنا أمام كارثة أخري تشبه ما حدث في قسم الجغرافيا منذ سنوات عندما ضاعت ثروة القسم من الوثائق والخرائط ووصلت إلي أيد مجهولة وكان من بينها خرائط عن ثروات مصر الطبيعية.
رابعا: وضع الوثائق المهمة والتاريخية في صناديق محصنة مع ضمان عدم تعرضها للسرقة أو النهب أو التلف أثناء عمليات النقل إلي المبني الجديد..
خامسا: لا يهم عامل الوقت في هذه المهمة وليكن ذلك خلال فترة زمنية مناسبة بشرط أن تتوافر ضمانات الحماية الكاملة.. إن أخشي ما أخشاه أن تكون هناك عيون ترصد الآن هذه الثروة الخرافية وربما عبثت بعض الأيدي في الظلام واعتدت مع سبق الإصرار والترصد علي ما بقي لهذا الشعب من الوثائق والكتب التي لا تقدر بثمن..
إن الجامعة تستطيع أن تلجأ إلي بعض مؤسسات الدولة المهمة للتنسيق معها في هذه المهمة الضخمة التي قد تتجاوز في مسئولياتها إمكانيات الجامعة أمنيا وإداريا.. ولا أدري هل يمكن لنا الآن أن نطالب بالتأمين علي هذه المكتبة لدي شركات التأمين الكبري قبل أن يتم نقل محتوياتها حفاظا علي ثروة الشعب المصري وحتي لا يقتحم قطار الخصخصة المكتبة العريقة..
بقي عندي سؤال أخير عن مصير المبني العريق الذي يقع علي مساحة تقترب من2500 متر وهل سيتحول إلي مبني إداري لموظفي الجامعة أو يلحق بكلية الآداب أم يتحول إلي مكان للنشاط الجامعي حيث تقام فيه الندوات والمؤتمرات والأمسيات الثقافية.. إن جامعة القاهرة في حاجة إلي مبني مناسب للأنشطة الثقافية بجانب قاعة المحاضرات الكبري ويمكن استثمار هذا المبني القديم للمكتبة في هذه المجالات خاصة أننا نحلم أن تشهد الجامعة العريقة صحوة ثقافية وحضارية وإنسانية تعيد لها دورها في حياتنا علي كل المستويات. إن أخشي ما أخشاه أن يتحول مبني المكتبة القديم إلي مبني إداري يضم المكاتب والدوسيهات والملفات ويصبح مجرد أرشيف عتيق وتفقد المكتبة أمام عشاقها القدامي بريقها القديم ورونقها الراحل.. إن مثل هذه الأماكن التي ارتبطت بدور وذكريات وأفكار ومشاعر ينبغي أن تبقي مزارا لطلاب جامعة القاهرة وخريجيها وأجيالها المختلفة ولهذا ينبغي أن يتحول هذا المبني إلي مركز ثقافي لكل كليات الجامعة بحيث تقام فيه المواسم الثقافية بجانب قاعة المحاضرات الكبري بالجامعة.. إن تحويل مكتبة جامعة القاهرة إلي مخازن للكتب أو حجرات للموظفين سيكون امتهانا لجزء عزيز من ذكرياتنا في هذه الجامعة العريقة.
وبعد عامين تحتفل مصر كلها والعالم العربي بالعيد المئوي لجامعة القاهرة ومكتبتها الجديدة في ثوبها الحضاري الجديد وأتمني أن يواكب تلك الاحتفالية برنامجا ثقافيا كبيرا يزلزل أركان الجامعات المصرية الأخري ويكون بداية لأن تعود أسماؤها إلي قائمة أفضل الجامعات في العالم.
ويبقي الشعر
من قال إن العار يمحوه الغضب
وأمامنا عرض الصبايا يغتصب
صور الصبايا العاريات تفجرت
بين العيون نزيف دم من لهب
عار علي التاريخ كيف تخونه
همم الرجال ويستباح لمن سلب؟!
عار علي الأوطان كيف يسودها
خزي الرجال وبطش جلاد كذب؟!
الخيل ماتت.. والذئاب توحشت
تيجاننا عار.. وسيف من خشب
العار أن يقع الرجال فريسة
للعجز.. من خان الشعوب.. ومن نهب
لا تسألوا الأيام عن ماض ذهب
فالأمس ولي.. والبقاء لمن غلب
