هوامش حرة
الدولة.. وتهميش دور النخبة
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
في أحيان كثيرة يبدو المجتمع المصري وكأنه إنسان قرر فجأة أن يقطع رأسه ويمضي بين الناس في الشوارع مقطوع الرأس بعد أن أعطي عقله إجازة.. وهذه الصورة تنطبق تماما الآن علي ما يحدث بين الدولة المصرية والنخبة وقد اتسعت درجة الخلاف بينهما حتي إنها تهدد بالقطيعة.. وإذا كانت النخبة تمثل رأس المجتمع وعقله المفكر فإن الصراع الدائر الآن بين الدولة ونخبتها يشبه تماما صورة إنسان يقطع رأسه..
ومن ينظر للشارع المصري فسوف يشعر بحزن شديد وهو يشاهد دوامات الصراع وهي تندفع بقوة واحدة وراء الأخري.. إنها ظواهر صحية في شكلها ومظهرها كتعبير عن معارضة حقيقية ولكنها تحمل في الوقت نفسه مؤشرات انفصام واضحة في موقف المجتمع تجاه النخبة وهي بكل المقاييس تمثل عقله وضميره الحي..
أن النخبة المصرية واحدة من أقدم النخب علي مستوي العالم ثقافيا وفكريا وحضاريا ولا أحد يعلم تماما تاريخ ميلاد هذه النخبة وهل أرتبط ذلك بمشروع محمد علي في تحديث وبناء مصر أم سبق ذلك قليلا في حركة المقاومة ضد الحملة الفرنسية وحملة فريزر؟ أم أن هذه النخبة كانت حصاد تجربة محمد علي بعد أن اكتملت في إنشاء الدولة الحديثة.. أم أن هذه النخبة واكبت عصر إسماعيل عندما حاول أن ينقل النموذج الغربي للحياة في مصر من خلال مجلس النواب ودار الكتب والأوبرا والمدارس والبعثات؟.. ولكن المؤكد أن هذه المؤشرات جميعها تجسدت في صورة هذه النخبة مع بداية القرن الماضي وإنشاء جامعة القاهرة ثم ثورة19 وحركة المد الثقافي التي شهدتها مصر بعد ذلك.
كانت النخبة المصرية واحدة من أعرق النخب في العالم وهي الآقدم والأكثر تأثيرا علي مستوي المنطقة العربية.. ورغم وجود بعض الخلافات في المواقف والأراء بين هذه النخبة بتياراتها المختلفة إلا إنها اجتمعت علي قيمة واحدة وهي الانتماء الصادق لمصر الوطن والإيمان الحقيقي بالتطور الإنساني كهدف وغاية..
هذه النخبة المصرية هي التي صاغت تجربة مصر الحديثة بعد ثورة19 ابتداء بالدستور وانتهاء بالجامعة مرورا علي حالة من الزهو الثقافي والفكري وصلت إلي ابهي مراحلها مع نهاية الأربعينيات.. وكان من حصاد هذه النخبة أيضا تجربة حزبية وليدة وفريدة لا يستطيع أحد إنكارها.. وواكب هذا المشروع السياسي و الثقافي تجربة اقتصادية كانت الحكومة الإنجليزية فيها مدينة لمصر بمبلغ450 مليون جنيه استرليني هي ديون الحرب وكان الجنية المصري يعادل جنيها من الذهب الخالص.
كان من الممكن أن تكبر هذه النخبة ويتسع نشاطها ويتأكد دورها ولكنها تعرضت للضربة الأولي من الضباط الأحرار بعد قيام ثورة يوليو حيث كان من الصعب علي فكر الشباب الثائر أن يستوعب فكر هذه النخبة ودورها وضرورتها وأهميتها في المجتمع وكانت النتيجة أن أطاحت ثورة يوليو بهذه النخبة بضربة قاضية بعثرتها في كل اتجاه.. كانت تصفية الأحزاب السياسية أول عملية إجهاض للنخبة السياسية.. وكانت عمليات التأميم والحراسة أول ضربة عشوائية لمشروع النخبة الاقتصادية.. وكانت الإطاحة برموز الفكر المصري خاصة الذين لم تتعاطف معهم الثورة أول عقاب للنخبة الثقافية من أهل الفكر وإن بقيت قضايا الحرية والديمقراطية أهم جوانب الخلاف بين النخبة وثورة الضباط.
وبعد ذلك دخلت الحكومات المتعاقبة في عمليات تصفيات قاسية لهذه النخبة وانتهي المشروع إلي توليفة جديدة أقرب إلي الشللية وأهل المصالح منها لأصحاب الفكر والرؤي.. وهنا ظهرت مسميات جديدة عن أهل الثقة وأهل الخبرة.. وأعداء الشعب وأعداء الثورة وتم إقصاء عدد كبير من رموز هذه النخبة في الوقت الذي حاولت فيه الثورة خلق نخبة جديدة تدين بالولاء للدولة أكثر من ولائها للوطن.. وساد هذا الرأي علي أساس أن الدولة هي الوطن وأن الحاكم هو الشعب.
وكان من نتيجة هذا الفهم الخاطئ من ثورة يوليو لدور النخبة أن تعرضت تيارات كثيرة منها لعمليات تصفيات فكرية وسياسية بل جسدية أحيانا وأن واكب ذلك للإنصاف بعض المواقف الشخصية للزعيم الراحل جمال عبد الناصر والذي أدرك في أحيان كثيرة دور هذه النخبة..
وللإنصاف أيضا فإن الرئيس السادات وكان صاحب خلفية ثقافية وفنية ودينية لا يمكن إنكارها كان يؤمن بدور هذه النخبة حتي وان اضطرته الظروف أن يسجنها في أحداث سبتمبر المشئومة..
ولكن المؤكد أيضا أن كامب ديفيد والسلام مع إسرائيل كان أعمق شرخ أصاب هذه النخبة وشتت مواقفها وأفكارها ووسع دائرة الخلاف بينها وبين الدولة.. لقد انقسمت هذه النخبة بكل تياراتها بين من عارض السلام ومن أيده ولهذا كانت جوانب الاتفاق بينها محدودة للغاية طوال الربع قرن الأخير.. بل إن رموزا كثيرة انسحبت.. ورموزا أخري رحلت ووسط هذه الانقسامات في المواقف حلت حالة من الفراغ السياسي الرهيب استغلها البعض ببراعة وفشلت فيها الدولة فشلا ذريعا وفي بداية حكم الرئيس مبارك شهدت الساحة تفاهما واضحا مع النخبة تجسد في الإفراج عن ضحايا سبتمبر من الرموز السياسية والفكرية.
ولكن من يشاهد الآن أحوال هذه النخبة سوف يجد أمامه ألف سؤال وسؤال..
كيف وصلت درجة الخلاف إلي هذه المناطق.. بل إنها درجة من درجات الصدام بين الدولة ونخبتها.. هل هناك عناصر شجعت علي هذه القطيعة وسعت إليها.. بمعني آخر هل في الدولة المصرية من يريد هذه القطيعة.. وبماذا نفسر ما يحدث الآن..
إن القضاة معتصمون لأن الدولة لا تريد أن يكون لهم رأي فيما يحكمنا من قوانين وإجراءات لان تشريع القوانين مسئولية مجلس الشعب ومسئولية القضاة تخضع لوزير العدل ومجلس القضاء الأعلي.. والصحفيون في السجون لأن الدولة مازالت تلف وتدور ومعها ترزية القوانين حول قانون حبس الصحفيين.. والنقابات المهنية بلا استثناء يتحكم فيها التيار الإسلامي والجماعة المحظورة كما تطلق عليها الدولة.. وأساتذة الجامعات لهم مطالب كثيرة لا يسمعها أحد.. ونقابة المهندسين مغلقة منذ سنوات بحارس قضائي.. والطلبة محرومون من العمل السياسي في الجامعات.. وعمداء الكليات ورؤساء الجامعات بالتعيين..
وكانت نتيجة ذلك كله حالة من الاحتقان الشديد بين الدولة والنخبة وقد شجع علي ذلك كله إجراءات غريبة لا يستطيع الإنسان أن يفهمها أو يستوعبها.. منها مثلا ألا تقام احتفالية للحاصلين علي جوائز الدولة من أهل الثقافة والفكر17 عاما كاملة.. وألا يشهد الحزب الوطني بكل أعضائه في مجلس الشعب مفكرا أو صاحب رأي وأن تستغني الدولة عن1700 أستاذ جامعي لأنهم بلغوا سن السبعين ولا تستفيد منهم في شيء رغم أنهم ثروة لاتعوض وأن يكون الحسم لقوات الأمن في تعامل الدولة مع النقابات المهنية..
والأغرب من ذلك كله أن وضعت الدولة علي رأس مؤسساتها الثقافية والفكرية والصحفية لسنوات طويلة مجموعات من الشلل وأهل المصالح وأعداء الفكر والثقافة ابتداء بالمؤسسات الصحفية والإعلامية الغارقة في ديونها الآن وانتهاء بالمؤسسات الثقافية التي تدار كالعزب مرورا علي مدن الإنتاج الإعلامي والترفيهي وما فيها الآن من سرقات وفضائح هذه القيادات لم تستوعب أهمية ودور هذه النخبة وشهدت هذه الفترة التي طالت عمليات تهميش مقصودة ومتعمدة..
كل هذه الظواهر المرضية أبعدت الرموز الحقيقية في النخبة المصرية عن هذه المناطق الموبوءة والملوثة.. وللأسف الشديد أن هناك من بين المسئولين من ورط الدولة في ذلك وحرمها من فكر وعقل ورؤي نخبتها الحقيقية حتي تبقي السيادة للفهلوة والجهل والسطحية..
والآن تقف الدولة في ظرف تاريخي صعب في صدام مع النخبة ويبدو إنها راهنت بشكل خاطيء علي كتيبة من رجال الأعمال واكتفت بهم عن كل شيء ابتداء بالحزب وانتهاء بالحكومة مرورا علي المؤسسات الاقتصادية..
إن خروج النخبة المصرية للشارع في موقف واضح و صريح ضد سياسة الدولة يحمل تراكمات كثيرة كانت وراء هذا الموقف الرافض.. إنها احتجاج صارخ علي تهميش هذه النخبة وأبعادها عن دورها الحقيقي لأن الدولة قررت أن تتخلي عن هذه النخبة في مغامرة غير محسوبة النتائج لأنها تشبه تماما إنسانا قرر أن يقطع رأسه...
ويبقي الشعر
اغضب.. فإن بداية الأشياء أولها الغضب
ونهاية الأشياء آخرها الغضب
والأرض أولي بالغضب
والعرض أولي بالغضب
سافرت في كل العصور.. وما رأيت سوي العجب
شاهدت أقدار الشعوب سيوف عار من خشب!
ورأيت حربا بالكلام.. وبالأغاني والخطب!
ورأيت من سرق الشعوب.. ومن تواطأ من نهب!
ورأيت من باع الضمير ومن تآمر أو هرب!
ورأيت كهانا بنوا أمجادهم بين العمالة والكذب
ورأيت من جعلوا الخيانة قدس أقداس العرب
ورأيت تيجان' الصفيح'..تفوق تيجان الذهب
ورأيت نور محمد يخبو أمام أبي لهب!!
فاغضب.. فإن الأرض يحييها الغضب
