أبطال هذا الزمان

هوامش حرة

أبطال هذا الزمان

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة


إذا أردت أن تعرف شعبا فأبحث عن رموزه‏..‏ وإذا أردت أن تعرف أمة فأسأل عن أبطالها وإذا أردت أن تدرك أحلام الناس فأسأل عن القدوة فيها‏..‏ ومن خلال ذلك تستطيع أن تضع الزمن الذي نعيش فيه في مكانه الصحيح‏..‏ أو مكانه الخطأ‏..‏



وعندما تصغرالقضايا وتتراجع الاهتمامات وتصاب عقول الناس بالأنيميا الحادة في مستوي الفكر تختل موازين كل شيء‏..‏ فتري ممسوخات غريبة وقد تحولت إلي رموز‏..‏ وتري الخطايا وقد صارت فضائل‏..‏ وتتعجب وأنت تسأل نفسك هل هذه هي نفس الأرض التي أنجبت الأشجار الشامخة ولا مكان فيها الآن إلا للحشائش والنباتات المتسلقة وهل هذا هو نفس الشعب الذي خرجت منه تلك العقول المبهرة والباهرة‏..‏ وكيف أصيبت الأرض بالعقم الطويل‏..‏ وأصيب الناس بهذا القدر الكبير من السطحية والبلاهة‏..‏



طوال أسابيع أنشغل الإعلام المصري كله بل والعربي الرسمي والحكومي والمستقل من الصحف‏..‏ والشاشات الأرضية والفضائية‏..‏ بمجموعة محددة من القضايا التي حدثت في مصر‏..‏ أضعها أمام القاريء العزيز بلا مبالغة أو زيادة أو نقصان‏..‏ شغلت هذه القضايا الشعب المصري كله وكانت حديث كل بيت وما نشيت عشرات الصحف‏..‏ وعشرات البرامج التلفزيونية‏..‏ إنها قصص عن بطولات غريبة‏..‏ وأبطال ورموز أطلت في عيوننا فجأة لتؤكد واقعا قبيحا ترهل واستسلم واستكان‏..‏



‏-‏ حكاية مطرب شاب أدين في جريمة تزوير أوراق رسمية‏..‏ وخرجت جموع من الشباب المصري تدافع عن بطلها وترفع اللافتات في الشوارع تطالب بالإفراج عنه‏..‏



‏-‏ حكاية فتاة دارت في المحاكم لتحصل علي أسم لأبنتها‏..‏ وخرج المجتمع الانثوي المصري بسيداته وشاباته ومحجباته وعارياته يطالب بالقصاص من المجتمع الذكوري المتخلف رغم أن المجتمع لم يكن شريكا في القضية ولا طرفا فيها‏..‏



ووقف من يقول ومن يكتب مقارنا بين دعوات قاسم أمين وبطولة هدي شعراوي وما يحدث في مصر الآن من ثورة اجتماعية وتحاول أن تبحث عن هذه الثورة في أي شيء فلا تجد غير مجتمع أدمن الهزيان‏..‏ هل هذا كلام عاقل‏..‏ وما هي العلاقة بين هدي شعراوي وهذه الرموز العظيمة وما نراه الآن‏..‏ أننا لا نفسد الحاضر وحده ولكننا نفسد معه التاريخ والذكريات‏..‏



‏-‏ حكاية حذف أسم الأب من شهادة الميلاد واستبداله باسم الأمة بحثا عن هوية جديدة وعدالة مفقودة ومجتمع لا يعترف بحقوق المرأة ويحصل الرجل فيه علي كل شيء‏..‏ لقد انتهت كل مشاكل المرأة المصرية في عملها وحياتها وطلاقها وزواجها ولم يبق إلا نسب الأبناء للأمهات وإلغاء أبوة الأباء بفرمان نسائي‏..‏



‏-‏ حكاية فنانه شابه قررت أن ترتدي الحجاب وهذا حقها شرعا ودينا وسلوكا‏..‏ وفجأة تحول حجابها إلي قضية مجتمع وأمه وحضارة وكأن زلزالا أصاب المنطقة كلها إعلاميا وصحفيا‏..‏ لماذا لا نترك الناس في حالهم يختارون ما يشاءون ولماذا هذه الوصاية الغريبة وماذا خسر الفن بحجابها‏..‏ إنها المبالغات والبحث عن قضية والسباحة في الفراغ العقلي والفكري الذي أصابنا جميعا بالهزال أن ما كتبته الصحف وما أذاعته الفضائيات من قصص عن هذه الفنانة المحجبة يوازي كل ما كتب عن الفن في مصر في السنوات العشر الأخيرة هل هو إفلاس أم ترهل‏..‏ أم هروب من القضايا والهموم الحقيقية للناس‏..‏



‏-‏ حكاية خناقة حامية دارت في مجلس الشعب العريق تطايرت فيها الأحذية‏..‏ وصرخت فيها الاتهامات وامسك الجميع بالحذاء وتركوا الاتهامات الأصلية وما هو صحيح منها وما هو مغرض‏..‏ وبدلا من أن تكون المعركة قضية نهب مال عام تحولت إلي قضية حوارات بالأحذية‏..‏ وأمسكت عشرات الأقلام بالدفوف وعشرات أخري بالسكاكين وضاعت القضية الأساسية في زحمة الصراخ والعويل وعرفنا رأس الذئب الطائر قبل أن تطير وأن بقي السؤال وماذا عن الحقائق التي فجرت الأزمة وأين التحقيقات حول ماورد منها وهل تكون فقط عن حوارات الأحذية أم تشمل بقية القضية‏..‏



هذه بعض العناوين في مانشتات اهتمامات المواطن المصري بأجهزة إعلامه وصحافته القومية والمستقلة والحرة والمقيدة والفضائية والأرضية ومن كل لون‏..‏ ووسط هذا الضجيج وهذا الصخب تستطيع أن تكتشف الأبطال الحقيقيين في هذا المجتمع وتضع يديك علي أهم رموزه علي أساس أن الإعلام يعكس صورة الحياة في هذا المجتمع وأن هؤلاء هم أبطال اليوم إذا تحدثنا عن البطولة وأنهم القدوة التي ينبغي أن يسير الشباب خلفها‏..‏



وإذا كان لدينا كل هذا الوعي لكي يخرج الشباب في مظاهرات والنساء في حركات تأييد صاخبة فأين كان هؤلاء جميعا وحرية الشعب تنتهك كل يوم أمام إجراءات وقوانين استثنائية‏..‏ أين كان هؤلاء والمرأة المصرية المكافحة تمتهن كل يوم أمام طوابير الجمعية وفي الحقل والمصنع ودار المسنين والأيتام‏..‏ وهناك ملايين من الشباب بلا عمل‏..‏



هذه هي قضايا مصر في مرآة إعلامها الرسمي والأهلي ولو أننا أردنا أن نتعامل بدقة وأمانه مع واقعنا المريض فإن هناك قضايا تهمشت ودخلت سراديب النسيان وكانت هي الأحق والأولي أن تكون في الصدارة وهذا يؤكد هذا التناقض الشديد في نظرة المجتمع لأحواله وقضايا‏..‏



‏-‏ كانت القضية الأولي التي تهمشت علي شاشات الإعلام وأوراق الصحف هي ضحايا بورصة الأوراق المالية من البسطاء والغلابة الذين حلموا مجرد حلم أن يكسبوا بضعة جنيهات ومنهم من باع كل ما لديه وذهب إلي البورصة ليعود منها وقد خسر كل شيء‏..‏ أين ذهبت أموال هؤلاء الناس الذين يقدر عددهم بحوالي مليون وربع مليون شخص‏..‏ لا أحد يجيب‏..‏ كم خسر هؤلاء هناك روايات تقول إنهم خسروا‏200‏ مليار جنيه ومنهم من يري أن المبلغ أقل أو أكثر‏..‏ ولكن لم يجب أحد علي هذا السؤال سواء إعلاميا أو اقتصاديا أو فنيا أين ضاعت أموال البورصة‏..‏ وماذا فعل فيها الحيتان وكيف التهموا كل الأسماك الصغيرة التي اقتربت من المحيط‏..‏



‏-‏ كانت القضية الثانية الأولي والأحق بالاهتمام الإعلامي هي كارثة القمح الذي توسع الفلاحون في زراعته بناء علي توجيهات الدولة حتي وصلت مساحته إلي ثلاثة ملايين فدان‏..‏ كان ذلك تشجيعا لشعار رنان حول تحرير رغيف الخبز‏..‏ وزادت الكميات‏..‏ واتسعت المساحات وذهب الفلاحون إلي الحكومة لتشتري منهم المحصول ولكنها رفضت وقامت بتخفيض أسعار توريد القمح‏..‏ وفي الوقت نفسه كانت كميات القمح المستورد تتسلل إلي المخازن الحكومية لأن مافيا الاستيراد هي الأعلي صوتا وأكثر تأثيرا‏..‏ وضاعت علي مصر فرصة نادرة لأول مرة عن رغيف خبز مصري المنشأ والهوي‏..‏



‏-‏ كانت القضية الثالثة هي تعويضات ضحايا عبارة الموت الذين لم يحصلوا علي شيء حتي الآن ومازالوا حائرين بين مكاتب الشركة والحكومة حتي أن المتبرعين من رجال الأعمال يطالبون الآن باسترداد تبراعتهم التي قدموها للضحايا واستولت عليها الحكومة‏..‏ ولا أدري لماذا يصل قطار العدالة والحقوق للغلابة والبسطاء متأخرا وكثيرا ما وصل بعد فوات الأوان‏.‏



‏-‏ وكانت القضية الرابعة هي المظاهرات التي اجتاحت الشارع المصري من القضاة والصحفيين والمعارضين والاعتداءات الصارخة عليهم ومهما كانت درجة الخلاف أو الاتفاق حول هذه المظاهرات إلا أنها تمثل جانبا مضيئا في حياتنا وسط سرداب طويل مظلم‏..‏ فأين نحن من كل هذا وما هي درجة التفاعل والتجاوب مع مطالب الحرية وحقوق الإنسان والمجتمع العادل لأبناء الوطن الواحد‏..‏



أن هذه الظواهر تؤكد أننا أمام أشياء مقلوبة وقضايا ملفقة وأبطال مزيفين‏..‏ ورموز فاسدة‏..‏ وللأسف الشديد أن هناك عملية خداع ذكية يمارسها البعض من أجل تشويه الحقيقية وإخفاء الأبطال الحقيقيين‏..‏ أن مصر ليست هذه اللوحات المزيفة التي يصنعها الإعلام بكل أدواته ليست أبدا مطربا متهما أو فتاة أخطأت أو تطاير أحذية أو مجتمع ذكوري وامرأة مغلوبة علي أمرها فيه‏..‏ أن شباب مصر هو الشباب الذي مازال يبحث عن لقمة عيش كريمة في أصعب الظروف وهؤلاء الشباب هم الذين ذهبوا بمدخراتهم إلي البورصة وأكلتهم الحيتان‏..‏ والمرأة المصرية هي المرأة المطحونة المكافحة التي مازالت تقف بجوار زوجها في البيت والمصنع وليست تلك القشرة المزيفة المريضة التي تتلالأ في سماء القاهرة وفي صفحات المجتمع وشاشات التليفزيون‏..‏ والرجل المصري مازال هذا المكافح الذي يعمل بصدق وإخلاص حتي وإن لم يحصل علي حقه فلم يسرق ولم يلوث بيته ولا نسله ولا نسبه بالمال الحرام‏..‏ هؤلاء هم مصر الحقيقية وهؤلاء هم أبطالها الحقيقيون الذين يتمسكون بقيمة أسمها الشرف‏..‏ وقناعة أسمها الحلال والحرام وقدوة أسمها الأخلاق والقيم‏..‏ ولكن ماذا تفعل مع زمن صنع الأكاذيب وصدقها وشوه الحقائق وروجها‏..‏ ونهب أموال الناس ومازال يصرخ فيهم أحسن من الشرف مفيش‏..‏ وأين هذا الشرف‏..‏ شر البلية ما يضحك‏..‏



ويبقي الشعر


اغضب‏..‏ فإن الناس حولك نائمون‏..‏وكاذبون‏..‏

ومنتشون بسكرة العجز المهين

اغضب إذا صليت أوعانقت كعبتك الشريفة مثل كل المؤمنين

اغضب‏..‏ فإن الله لا يرضي الهوان لأمة



كانت ـ ورب الناس ـ خير العالمين

فالله لم يخلق شعوبا تستكين



اغضب إذا لاحت أمامك‏..‏

صورة الكهان يبتسمون والدنيا خراب والمدي وطن حزين



اغضب إذا لملمت وجهك بين أشلاء الشظايا‏.‏

وانتزعت الحلم كي يبقي‏..‏

علي وجه الرجال الصامدين



اغضب إذا ارتعدت عيونك‏..‏

والدماء السود تجري‏..‏ في مآقي الجائعين



اغضب إذا لاحت أمامك أمة مقهورة

خرجت من التاريخ‏..‏ باعت كل شيء‏..‏

كل أرض‏..‏ كل عرض‏..‏ كل دين
 
Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads