لقاء مع وزير العدل

هوامش حرة

لقاء مع وزير العدل

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة



في البداية لابد أن أعترف أنني منذ زمان بعيد لم ألتق بمسئول كبير يعيد إلي ذاكرتي عبق الزمان الجميل برموزه ورجاله‏..‏ كانت الصور أمامي تبدو باهتة شاحبة هزيلة لا بريق فيها ولا وهج‏..‏ وفي الأيام الأخيرة تلقيت دعوة من المستشار ممدوح مرعي وزير العدل مع نخبة من الزملاء رؤساء تحرير الصحف والكتاب‏..‏ وجلسنا ثلاث ساعات مع وزير العدل‏..‏



وأعترف أن الرجل كان موضوعيا في حديثه مقنعا في طرحه‏..‏ أمينا في نقده لذاته قبل أن ينقد الآخرين‏..‏ وقد شعرت أنه ظلم نفسه في البداية لأنه اختفي خلف كرسي الوزارة مؤثرا الصمت رغم أنه يتمتع بمصداقية كبيرة وحضور طاغي وقدرة فائقه علي الإقناع‏..‏ إنه يستطيع بلا جهد أن يكسب احترامك من اللحظة الأولي لقد أعاد إلي ذهني صورة مصر قبل أن تتعرض لعملية تجريف قاسية قطعت أشجارها وتركت حشائشها تتسلق في كل مكان‏..‏



وقبل أن أدخل في تفاصيل ما دار بيننا وبين وزير العدل عندي سؤالان‏:‏

السؤال الأول‏:‏ لماذا أختفي هذا التقليد الذي كان المسئولون فيه يجتمعون مع الصحفيين والكتاب في جلسات مصارحة لا تخلو من التقدير وليست بعيدة عن النقد يتحاورون ويتساءلون ويتصارحون‏..‏ لماذا حدثت هذه القطيعة بين المسئولين في الدولة والصحافة واكتفي كل مسئول بأن يقرأ الصحف ولا يعلق عليها‏..‏ واكتفي كل كاتب بأن يعيش بين أوراقه ويحلم‏..‏ أن الفجوة التي حدثت بين المسئولين في الدولة وصحافتها كارثة تحتاج إلي علاج وظاهرة تحتاج إلي دراسة‏..‏ لقد اكتفي كل مسئول بمنصب جديد أضافه إلي قلعته الإدارية يسمي المتحدث الرسمي‏..‏ وضاعت حقائق كثيرة بين المسئولين والصحافة أمام غياب الصراحة وعدم المكاشفة والاكتفاء بنشرات روتينية توزعها مكاتب الوزراء علي الصحف ذرا للرماد‏..‏



السؤال الثاني‏:‏ لماذا لا نلجأ إلي الصراحة والمكاشفة في كل القضايا التي نواجهها ولماذا نفضل أحيانا أن نخوض معاركنا عبر الفضائيات والحوارات الملتهبة والتصريحات النارية رغم أن كل شيء يمكن أن يعالج بحكمة وموضوعية بعيدا عن الصراخ والضجيج والصخب‏..‏ بمعني أخر لماذا فقدنا القدرة علي أن نتحاور بموضوعية وأن نختلف بإحترام دون أن نلقي التهم أو نصادر الرأي الأخر‏..‏



أعود إلي لقاء وزير العدل المستشار ممدوح مرعي‏..‏ قبل أن أسأله عن تعيينات النيابة والقضاء وما يحدث فيها من تجاوزات وهي القضية التي لاقيت فيها ما لاقيت قال الوزير قد لا تعلم أنني استقلت يوما من المجلس الأعلي للقضاء بسبب هذه المهزلة‏..‏ وأقسم لك لو كنت موجودا في السلطة ما حدث معك ما حدث لقد كنت علي حق في كل ما ذكرت في هذه القضية‏..‏ ولقد أوقفت تعيين دفعة كاملة في النيابة الإدارية بسبب المجاملات والوساطة وعدلت النتيجة تماما وقمت بتعيين أوائل كليات الحقوق‏..‏ وإذا كنت أملك هذا بحكم المسئولية كوزير للعدل في النيابة الإدارية فأنا لا أستطيع أن أفعل ذلك في النيابة العامة لأنها من اختصاص المجلس الأعلي للقضاء‏..‏



قلت للمستشار ممدوح مرعي‏..‏ وما هو الحل حتي لا نجد علي منصة القضاء قضاة دفعت بهم المجاملات والوساطة إلي هذه المكانة الهامة والموقع الخطير إنها العدالة ضمير المجتمع وروح الأمة قال‏:‏ الحل هو أكاديمية القضاء وسوف ننتهي قريبا من إعداد القانون الخاص بها ثم بعد ذلك يتم إنشاء الأكاديمية التي تأخرت سنوات طويلة لأسباب لا يعرفها أحد‏..‏ لكن لابد من ضمان اختيار القضاة علي أسس علمية وأخلاقية تعطي الفرصة لمن يستحقها بعيدا عن نسبه وعائلته وغناه وفقره‏..‏ المهم أن يكون من أسرة طيبة سلوكا وأخلاقا وتميزا‏..‏ إن الأسرة الفقيرة التي قدمت شابا متفوقا حصل علي امتياز في كلية الحقوق أفضل عندي من أسرة غنية أنجبت الراسبين من الخريجين‏..‏ لابد أن نكافيء النجاح‏..‏ ونساند التفوق ونعطي الفرصة للجميع‏..‏



كان حديث الوزير عن استقلال القضاء حديثا مقنعا وهو يقول إن القاضي يتمتع بحقوق لا تتوافر لغيره‏..‏ أنه حر أكثر مني وأنا الوزير‏..‏ عندما كنت قاضيا لا يحاسبني إلا ضميري ولكنني الآن وزير يمكن أن أحاسب كل يوم ومن أكثر من جهة‏..‏ ولهذا فإن استقلالية القاضي في مواقفه وسلوكياته وإصراره علي تنفيذ العدالة يستطيع أن يمارس هذا الحق بكامل حريته ولا توجد فرمانات تعطي للقاضي حقا أو تسلبه منه‏..‏ أن له جميع الحقوق وهو يجلس علي منصة العدالة ولا رقيب عليه إلا الله‏..‏ وضميره‏..‏



وعندما بدأ الحديث عن نادي القضاة وحالة التوتر التي شابت العلاقات بين النادي ووزارة العدل والمجلس الأعلي للقضاء‏..‏ قال الوزير‏..‏ أن أعضاء مجلس إدارة النادي إما زملائي‏..‏ أو تلاميذي‏..‏ أو أخوتي‏..‏ وليس بيني وبين أحد منهم خصومه‏..‏ لقد جئت من أجل خدمة القضاة‏..‏ وخدمة العدالة‏..‏ وأنا أدير العدالة‏..‏ والقضاة هم أصحاب الكلمة فيها‏..‏ لقد كان همي في الفترة الماضية أن أعيد للمحاكم هيبتها ونظافتها وجلالها وأن أضمن مكانا لائقا للقضاة‏..‏ وأن أوفر لهم كل مظاهر الحياة الكريمة وهم يتنقلون بعيدا عن بيوتهم وأبنائهم في المحافظات‏..‏ لقد كنت قاضيا وتنقلت بين عشرات المحاكم وأعرف كل شيء عنها ولهذا كان هدفي الأول إصلاح مبانيها وتنظيف قاعاتها‏..‏ وتوفير سبل الراحة فيها للقضاة وللمواطنين‏..‏ أن أكثر من مليوني مواطن يدخلون المحاكم كل يوم ولابد أن نوفر لهم سبل الراحة والأستقرار‏..‏



إنني الآن في السبعين من عمري وما بقي لي مجرد خطوات في رحلة العمر ولن أخالف ضميري ولا ربي ولن أتجاوز في حق قانون أو دستور‏..‏



سألت الوزير‏..‏ ولماذا لا تجلسون معا الوزير ونادي القضاة والمجلس الأعلي للقضاء لفض الاشتباك خاصة أنك تتحدث بروح القاضي والأب والصديق‏..‏ أنا لا أتصور خلافا مهما كان لونه بين حماة العدالة في مصر‏..‏



قال الوزير‏..‏ سوف أسعي وقلبي مفتوح للجميع فأنا واحد منهم وما زال اعتزازي الحقيقي أنني قاض قبل أن أكون وزيرا للعدل‏..‏



أنتقل حديث الوزير بعد ذلك إلي قضية هامة وهي عدم تنفيذ الأحكام‏..‏ وقلت للمستشار ممدوح مرعي وصلتني هذا الأسبوع رسالة من أم عجوز تقول فيها أن المحاكم

أصدرت‏14‏ حكما بالإفراج عن أبنها المعتقل ولم ينفذ منها حكم واحد وما زال حتي الآن في السجن قال الوزير نحن نحاسب كوزارة للعدل علي تنفيذ الأحكام المدنية‏..‏ أما الأحكام الجنائية فهي من اختصاص وزارة الداخلية وليس لنا دخل فيها‏..‏ أنني لا أقبل أن يبقي مواطن واحد في السجن ساعة واحدة وهو بريء‏..‏ ولهذا طلبت من المحاكم ألا يجلس المتهم في قفص الاتهام إلا بعد صدور حكم بحبسه‏..‏ وما دام غير مدان فليس من حق أحد أن يحبسه حتي ولو كان ذلك لدقائق معدودة‏..‏



وعندما جاء الحديث عن المرأة القاضية‏..‏ قال الوزير أن هذه القضية محسومة ولدينا الآن القاضية تهاني الجبالي في المحكمة الدستورية‏..‏ وقريبا جدا سوف تجلس المرأة المصرية علي منصة القضاء‏..‏



كانت هناك قضايا أخري تحدث فيها الوزير حول ديون وزارة العدل والمحاكم الاقتصادية وتغيير عدد من القوانين والتشريعات أمام نخبة من الكتاب والصحفيين ورؤساء التحرير‏..‏ كان في مقدمتهم الزملاء الأساتذة‏:‏ جمال بدوي وحسن شاه ومحمد بركات‏..‏ ومحمد علي إبراهيم‏..‏ وعادل حموده ومصطفي بكري وأنور الهواري ومجدي الجلاد وعمرو عبد السميع‏..‏ وعبد الله كمال‏..‏



لقد كان اللقاء مع وزير العدل صريحا وجريئا ومثمرا وكان الرجل في منتهي الأمانة وهو يعرض فكره وتصوره لمسيرة العدالة في مصر ويبقي عندي رجاء أخير للمستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي القضاة‏..‏ والمستشار محمود مكي‏..‏ والمستشار محمود الخضيري والمستشار أحمد مكي أن يمدوا يدهم لوزير العدل فهو صادق في نواياه ولا يحمل للنادي ومجلس إدارته غير الود والتقدير‏..‏ إن لديه مشروعات كثيرة لخدمة العدالة ولديه رغبة شديدة في جمع الشمل بين القضاة في كتيبة عمل واحدة حتي تبقي صورة القضاء المصري كما كانت دائما قلعة نفتخر بها ونجد لديها الأمن والأمان أنني علي ثقة أن هذه الدعوة ستجد صدي لدي نادي القضاة ويجب أن يتم ذلك في غرف مغلقة من الود والتسامح وبعيدا عن صخب الفضائيات‏..‏



لقد شعرت من خلال حديث المستشار ممدوح مرعي أنه يدرك بحكم الزمن والتجارب والممارسة كل جوانب الصورة ابتداء بالمحاكم المهملة وانتهاء باختيار أعضاء النيابة وما حدث فيها من تجاوزات وأخطاء وعلينا جميعا أن نمد له أيدينا حتي يكمل رسالته في خدمة العدالة‏..‏



ويبقي الشعر

كـانـت تـعـلـم‏..‏

أن الموت ضريبة عشــق للأوطان

أن الحب سيصبح يوما

أجمل وشم للأكـفـان

أن الموت سيصبـح عرسا‏..‏

ينـسينـا كـل الأحزان

من هذا الطـين بدأنـا الرحـلـة

سوف نـعود لنـفس الطـين

ليطوينـا‏..‏ صمت النـسيان



هذا الصمت

ترعرع فيه رحيق الزهرة

صارت غـصنـا في بسـتـان

سرت الرعشة في الأطراف

لـون الدم تـدفـــق نهرا في الشـطآن

ملأ الأرض فـأصبح نـبضا

أصبح كـونـا

أصبح وطـنـا في إنـسان



كـانـت تـعلـم

أن البـذرة تـعطي الشجره

أن الشـجرة تـعطي الثـمره

أن الثـمرة صارت نارا في بركـان

أن النـار ستـصبـح قـبرا للطـغـيان

ماتـت‏..‏ كـي يبقـي لبنـان






Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads