هوامش حرة
هيبة الدولة
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
لا تستمد الدولة ـ أي دولة ـ هيبتها من قدرتها علي البطش, ولكن تستمد هيبتها من القدرة علي تحقيق العدالة بين مواطنيها.. وهيبة الدولة لا تعني ان تتحول السلطة الي أداة ردع وعقاب, ولكن ان تكون لديها القدرة علي ان تكسب احترام المواطن وخشيته في نفس الوقت. إن هيبة الدولة تشبه الي حد كبير هيبة الاب الذي نعمل له ألف حساب في غيابه قبل حضوره.. وهيبة الدولة تبدأ من خفير الدرك الذي نشعر بقدرته علي حمايتنا وتنتهي عند القاضي الذي نجد عنده ضمير مجتمع قادر علي حمايتنا بالعدالة في كل الاحوال والظروف.. ولابد ان اعترف ان أخطر ما يقلقني في الفترة الأخيرة من الاحداث الدامية التي شهدتها مصر هو غياب هيبة الدولة في أحيان كثيرة.. والغياب هنا لا يعني عدم وجود قوات الأمن أو التشكيك في قدرتها علي مواجهة المواقف والأزمات, وإنما الغياب يعني احساسا دائما لدي المواطن بغياب هذه الهيبة..
ان في مصر جهاز أمن هو بكل المقاييس واحد من اكثر اجهزة الأمن في العالم قدرة علي مواجهة المواقف وهذه بلا شك نقطة تحسب له وتحسب عليه.. أما أنها تحسب له فلأنه قادر علي ان يحسم الكثير من الاشياء في الوقت المناسب.. وأما أنها تحسب عليه فلأنه في احيان كثيرة يأخذ أدوار مؤسسات اخري, كان ينبغي أن تخفف الضغوط والمسئوليات عن كاهل الأمن وتقوم بدورها في خدمة قضايا المجتمع, أو بمعني آخر اننا كثيرا ما نكتفي بالحلول الأمنية في قضايا شائكة وحساسة لا يمكن ان يحسمها الأمن وحده.
وقد أجد امامي هذا السؤال.. ماهي مظاهر غياب هيبة الدولة؟ وماهو المطلوب حتي تبقي هذه الهيبة وتحافظ الدولة من خلالها علي استقرار عادل وأمن عاقل وقرار حكيم؟..
آخر الظواهر في غياب هيبة الدولة ما حدث في الاسكندرية في الاسبوع الماضي.. شاب قيل انه مختل عقليا يقتحم في وقت واحد عددا من الكنائس ويعتدي علي المصلين فيه ويقتل شيخا مسيحيا.. ان أخطر ما يقال في مثل هذه الجرائم ان المتهم مختل عقليا, وليست هذه هي المرة الأولي التي يحدث فيها ذلك فقد شهدت احدي قري مدينة بني مزار في صعيد مصر منذ شهور جريمة أخري قتل فيها شخص مختل عقليا عشرة اشخاص في ليلة واحدة, ومثل بجثثهم وانتقل بين ثلاثة بيوت ولم يشعر به احد, وكأننا نعيش في قصة أهل الكهف.. والقضية هنا ليست قضية كهل مسيحي قتله شاب مسلم, ولكنها قضية تتعلق بتراجع هيبة الدولة امام غياب العدالة في مجتمع تحول الي أقلية تملك كل شيء من المسلمين والاقباط, واغلبية لا تملك اي شيء وهي ايضا من المسلمين والاقباط.. لماذا نحاول الآن ان نفرق بين المصريين في ديانتهم فقط ونتجاهل تماما اسبابا أخري غير الدين تفرق بين ابناء المجتمع الواحد وهي اكثر تأثيرا واعمق واخطر من خلافات العقيدة.. ان الفقر الذي يجتاح ثلاثة أرباع المجتمع لا يفرق بين المسلم والمسيحي.. والاب الذي لا يجد مستشفي يعالج فيه ابنه أو يعجز عن دفع مصروفات مدرسته أو لا يجد فرصة عمل شريفة أو تطرده قرارات عشوائية من عمله في قطار الخصخصة.. هذا الاب قد يكون مسيحيا أو مسلما, ولكن شبح الفقر واحد.. ان منشية ناصر ومدينة السلام وعشوائيات مصر يسكنها المسيحيون والمسلمون.. ولهذا لا يبغي ان ننظر الي ما حدث في الاسكندرية من منظور خلافات دينية فقط, ولكن في اطار ظروف اقتصادية واجتماعية وانسانية وصلت بنا إلي هذا الاحتقان الشديد. انا لا انكر ان هناك عودة عشوائية للدين بين المسلمين والمسيحيين وان هناك هروبا جماعيا في المجتمع المصري نحو المساجد والكنائس, وان هناك اطرافا تشجع الصدام بين ابناء الوطن الواحد.. ولكن هذه كلها اعراض تعكس صورة أمراض أخطر لأن وراء الهروب للدين اسبابا كثيرة في ملايين من شباب لا يعمل.. وعائلات لا تجد حاضرا ولا تحلم بمستقبل.. ومجتمع جشع فقد القدرة علي الرحمة بمسيحييه ومسلميه وفشل في ان يحقق أبسط صور العدالة في عمل شريف وسكن آمن.. ورغيف خبز ودواء.. والفشل هنا ليس فشل الحكومة وحدها ولكنه فشل اثرياء مصر من المسلمين والاقباط الذين سكنوا القصور وتركوا بقية المجتمع يسكنون القبور وهذه خطيئة يمكن ان ندفع ثمنها جميعا استقرارا ورخاء وامنا. مابين المسلمين والمسيحيين اكبر بكثير من ان يهتز بجريمة شاب مجنون أو عاقل, ولكن علينا أن ننظر الي ما خلف الظواهر.
من أخطر الشواهد في غياب هيبة الدولة ما حدث في عبارة السلام98, وامام مجلس الشعب والنائب العام والمدعي الاشتراكي تقرير خطير من لجنة النقل والمواصلات بالمجلس قرأه النائب حمدي الطحان, ونصف اعضاء المجلس يتحدثون مع بعضهم في مشهد ساخر حزين.. ان العبارة كانت تحمل ضعف حمولتها واكثر وان هناك قرار بذلك صدر منذ عام1995 يعطي للعبارة وغيرها من خرابات النقل البحري الحق في زيادة حمولتها الي الضعف.. ولم يكن في العبارة طفايات حريق صالحة ولا قوارب نجاة تعمل.. وان صاحب العبارة عضو في مجلس يدير كل شئون النقل البحري في البحر الاحمر وهنا اعود الي مربط الحصان الذي كنا دائما نحذر منه وهو العلاقة المريبة والغريبة بين السلطة ورجال الاعمال وقد حذرنا كثيرا من هذا التداخل وخطورته علي كل شيء في مصر..
وما حدث في عبارة الموت صورة من صور هذا الزواج الباطل بين سلطة الدولة ورجال الاعمال وكل القرارات الخاصة بالتجاوز في صلاحية السفن أو التغاضي عن حمولتها أو عدم كفاءة معداتها تؤكد فساد هذه العلاقة.. ان الفساد ينمو في ظل علاقات غير شرعية بين سلطة المال وسلطة القرار وامامنا هذا النموذج الصارخ..
هناك مشهد ثالث يؤكد هذه المنظومة الخاطئة في غياب هيبة الدولة وهو ما حدث للأحزاب السياسية سواء كانت معارضة أو تمارس الحكم.. لقد بدأ مسلسل العنف في هذه المؤسسات مع الانتخابات البرلمانية. شجع الحزب الوطني هذه التجاوزات من اجل هدف قصير المدي وهو الحصول علي الاغلبية في مجلس الشعب وتناسي ان العنف يفتح الف باب لمخاطر اكبر وسرعان ما بدأت مظاهر الانفلات في الشارع والتي وصلت الي قمتها مع احداث حزب الوفد وقد تري الدولة ان هذا أمر لا يعنيها لاننا امام حزب معارض وهذا قصور شديد في الرؤي لان مسئولية الدول ان تحمي معارضيها قبل مؤيديها وان انفلات الشارع كارثة يدفع ثمنها الجميع..
وفي تقديري ان هناك توابع اخري كثيرة نتجت عن غياب هيبة الدولة لقد ظهر ذلك واضحا في هذا الانقسام الرهيب في ساحة القضاء ان الدولة تخطيء كثيرا اذا حاولت ان تفتح ابواب الصراعات بين طوائف المجتمع كما حدث مع القضاة ومع الاحزاب ومع فئات اخري في المجتمع لان النيران عندما تشتعل لا تترك أحدا وهذه لعبة خطيرة.
ولقد ظهر هذا الغياب ايضا في نغمة الهجوم في الصحافة المستقلة والحزبية وهنا يجب ان نفرق بين النقد والهجوم وبين لغة الحوار ولغة الشوارع ولا شك ان لغة الحوار تتلاشي وان ما بقي الآن هو هجوم متبادل بين حكومة لا تريد ان تسمع أو تغير أو تستفيد وصحافة فقدت اعصابها وتجاوزت كل ؟؟ لانها تجاوزت حدود اليأس.
ان الصحافة تطرح قضايا في غاية الخطورة ولا تجد من يسمعها بل ان الحكومة لا تسمع رأي اجهزة خطيرة فيها وآخرها تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات والذي قدمه لملجس الشعب د.جودت الملط.. فلا مجلس الشعب اهتم بالتقرير.. ولا الحكومة درسته كما ينبغي.. ولا الشعب عرف الحقيقة امام عملية تعتيم مقصودة.. وهنا ايضا غابت هيبة الحكومة حتي في مواقف واحداث صنعتها وشاركت فيها.. لقد ثارت الحكومة امام ما كتبته الصحافة حول صفقة بيع عمر افندي.. وبعد كل ماحدث ارتفع سعر الصفقة من435 مليون جنيه الي مليار جنيه أي بزيادة اكثر من100% وهنا نتساءل هل أضر النقد في هذه الحالة أم افاد وماهو موقف الحكومة وهي تظهر في صورة السمسار الذي يتحايل من أجل ابرام صفقة.. يجب ان يتسع صدر الدولة للرأي الآخر حتي وان كان عنيفا وحادا وان تلتزم الصحافة بآداب الحوار لأنها صاحبة رسالة وينبغي ان تكون مدرسة للحوار الراقي.. وان يحرص الجميع علي شيء مهم هو هيبة الدولة.
ان الدولة المصرية اقدم دول التاريخ وهي صورة من صور الانضباط الحازم من أجل الاستقرار والأمن والرفاهية.. ولذلك كانت لها هيبتها.. وهيبة الدولة احساس معنوي يشعر به المواطن في رجل أمن يحميه ويقدره, ومسئول يحترم آدميته وعدالة تشمل الجميع ومن الخطأ الجسيم ان نتصور ان هيبة الدولة تكمن في قوتها وقدرتها علي ردع الناس وتخويفهم, ولهذا يجب أن نفرق بين شعب يهاب دولة تحميه وشعب يخاف حكومة تقهره..
ويبقي الشعر
في الأفق غيم.. وراء الغيم همهمة
وطيف صبح بدا في الليل بركانا
صوت النوارس خلف الأفق يخبرني:
البحر يخفي وراء الموج طوفانا
لا تسأل الحلم عمن باع.. أو خانا
واسأل سجونا تسمي الآن أوطانا!
أشكو لمن غربة الأيام في وطن
يمتد في القلب شريانا.. فشريانا؟
ما كنت أعلم أن العشق يا وطني
يوما سيعدو مع الأيام إدمانا
علمتنا العشق, حتي صار في دمنا
يسري مع العمر أزمانا.. فأزمانا
علمتنا.. كيف نلقي الموت في جلد
وكيف نخفي أمام الناس شكوانا
هذا هو الموت يسري في مضاجعنا
وأنت تطرب من أنات موتانا
