صفحات من الزمن الجميل

هوامش حرة

صفحات من الزمن الجميل

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة


إذا أردت أن تستعيد صورة مصر أيام زمان أجلس أمام التليفزيون وأسمع أغنية جميلة في أحدي حفلات سيدة الغناء العربي أم كلثوم‏..‏ وبعيدا عن الغناء الجميل‏..‏ والصوت العبقري والأداء المعجز والكلام الراقي والألحان الرائعة حاول أن تتابع وجوه الناس الذين يسمعون الغناء الجميل‏..‏ سوف تشاهد في هذه الحفلات وجوها غير تلك التي نراها الآن‏..‏ وسوف تري المرأة المصرية بعيدا عن الصخب والضجيج تعيش أزهي عصورها تحضرا ومظهرا وثقافة وإحساسا‏..‏



لا تحاول أن تقارن بين ما تراه الآن علي الفضائيات وهذا الزمن الجميل ولكن حاول أن تناقش القضية مع نفسك أولا‏..‏ وتسألها هل هؤلاء هم المصريون الذين نراهم اليوم في صورة أخري ونسمع عنهم عشرات الحكايات والقصص‏..‏ وهل هؤلاء هم نفس الشعب الذي أبدع كل هذا الجمال وعاشه إحساسا وسلوكا وتحضرا سوف تجئ الإجابة للأسف الشديد لتؤكد أننا تغيرنا بالفعل وأن هؤلاء البشر الذين سكنوا يوما علي ضفاف هذا النهر لا يمكن أن يكونوا هم أنفسهم سكانه اليوم‏.‏



وإذا أردت أن تعرف الحقيقة أكثر حاول أن تري مصر الأمس ومصر اليوم في سلوكيات الناس وأخلاقياتهم ودورهم في الحياة سوف تكتشف أن الملامح تغيرت‏..‏ والعقول تحجرت‏..‏ والمشاعر تبدلت وأن الناس غير الناس‏..‏ وإليك عشرات الشواهد إذا أردت أن تعرف الحقيقة‏..‏



‏*‏ كان لدينـا إحسـاس جميـل يسمـي الانتمـاء وكـان المصـري إذا أنتقـل‏.‏ من مدينة إلي أخري يشعر بغربة قاتلة‏..‏ وكانت مصر أقل دول العالم في معدلات الهجرة‏..‏ كان الانتمـاء عنـدنا إحساس بالولاء للوطن‏..‏ والمكــان‏..‏ والتاريخ‏..‏ والدور‏..‏ كان الوطن هو أكبر الأشياء في أعماقنا حبـا وإيمانـا



وكان المكان بعبقريته يمثل الملاذ الأمن والحلم الابدي‏..‏ وكان التاريخ بكل مراحله يمثل زادا لا ينقطع في رحلتنا مع الحياة‏..‏ ثم كان الدور الذي حملناه علي أعناقنا عبر فترات زمنية مختلفة يؤكد قدرة هذا الشعب ودوره في صياغة حياة وإنسان أفضل‏..‏



وإذا حاولت الآن أن تبحث عن هذا الانتماء في أي صورة من صورة فلن تجد إلا الصمت والدهشة‏..‏ فلا قدسية لوطن‏..‏ ولا قيمة لمكان‏..‏ ولا أهمية لتاريخ‏..‏ أما غياب الدور وتهميشه فتحدث عنه بلا حرج‏.‏ إن أكثر الأحاديث المتبادلة الآن بين جيل الأباء والأبناء هو حلم الهجرة للخارج ولعلنا نقرأ كل يوم مطاردات أمن الحدود في الدول المجاورة الذين يطاردون شبابنا الهارب وهو يموت في سفينة عتيقة أو تبتلعه أمواج البحر علي شواطئ إيطاليا أواليونان‏..‏ كيف تحول هذا الوطن إلي هذه الصورة القاسية وهذه الرغبة الشديدة في طرد أبنائه‏..‏ لهذا كله غابت صور الانتماء‏.‏



‏-‏ عندما أقرأ صفحة الحوادث في الصحف المصرية أتساءل هل هذه هي مصر التي نعرفها ولماذا ارتفعت معدلات الجريمة بهذه الدرجة المخيفة‏..‏ والغريب أن هناك نوعيات من الجرائم تسللت إلي حياتنا وأصبحت تهدد هذا المجتمع الذي كان يوما أكثر بلاد الدنيا أمنا واستقرارا‏.‏ ولعل أغرب ما في هذه الجرائم أنها تتسم بدرجة من الوحشية تجاوزت كل حدود العنف ولعل أخر ما تحدثت مصر عنه هو حكاية بني مزار وعشرة أشخاص تم ذبحهم والتمثيل بجثثهم‏..‏ وفي هذا المسلسل الرهيب الدامي تظهر صور الآباء الذين قتلوا أبناءهم والأمهات اللاتي ذبحن أبناءهن‏..‏ ولا شك أن هذه النوعية من الجرائم غريبة علي مصر السلوك‏..‏ والمجتمع‏..‏ والأخلاق‏..‏



‏-‏ في مصر الآن طبقات اجتماعية كثيرة تبـدأ بأصحـاب البلاييـن‏..‏ ثـم أصحاب الملايين وتنتهي عند من لا يملكون شيئا وهم الأغلبية المنحوسة‏..‏ وهذه الخريطة الاجتماعية الجديدة أعيد تشكيلها في سنوات قليلة جدا‏..‏ وفي المجتمعات العتيقة كانت هناك تركيبات اجتماعية طبقية توارثتها الأجيال جيلا بعد جيل‏..‏ وقد كانت هذه هي صورة مصر قبل قيام ثورة يوليو‏..‏ وذابت هذه الطبقات وتحللت أمام واقع اجتماعي وإنساني جديد‏..‏ ولكننا فوجئنا منذ سنوات بطبقة جديدة تهبط علي رؤوسنا من السماء بملايينها وأنقسم المجتمع المصري مرة أخري إلي فقراء وأغنياء وأصبح من السهل جدا أن تفرز ذلك كله في الأحياء و الأشخاص والبيوت والأماكن‏..‏ ويكفي أن تذهب إلي عشوائيات المعادي أو مدينة نصر أو امبابه وتنتقل إلي قصور مدينة أكتوبر لكي تدرك ما حدث في هذا المجتـمع‏..‏ أن الطفـرة الماديـة التـي حققها البعض لا تتناسب أبدا مع الفقر الشديد الذي لحق بالبعض الأخر‏..‏ ولعل أخطر ما في هذه الظاهره أنها أموال بلا جهد وثراء بلا موهبة‏..‏ وغني بدون وجه حق‏..‏ وتحاول أن تجد أسبابا مقنعه لهذا التفاوت الرهيب بين أبناء المجتمع الواحد وتكتشف أن السبب في ذلك كله قوانين وإجراءات

و مراسيم وفرمانات قلبت المجتمع كله رأسا علي عقب وأغدقت علي من لا يستحقون وحرمت أصحاب الحقوق‏.‏



‏-‏ كان المصريون ومازالوا من أكثر شعوب العالم تدينا وكان أبرز ما في الشخصية المصرية تلك الوسطية الجميلة التي لا تجنح نحو تطرف أو مغالاة‏..‏ وربما كان هذا هو السبب الرئيسي في أن مصر جمعت كل ديانات الخالق سبحانه وتعالي‏..‏ وكانت الأديان في مصر تعني السلوك والمعاملات والأخلاقيات قبل أن تكون شكليات ومظاهر‏..‏ ولا أدري متي نعود إلي هذه الوسطية التي كانت يوما من أبرز وأهم خصائص الشخصية المصرية المتوازنة‏..‏ في أحيان كثيرة تسمع كلاما غريبا في الدين من أشخاص لا علاقة لهم به وأصبح من حق كل واحد في السبعين مليون مصري أن يكون فقيها ويفتي في زاوية صغيرة أو فضائية‏..‏ وما أكثر الصراعات الآن حول الفتاوي وكلها موضوعات مضحكة‏.‏



‏-‏ كان المصــريــون بالفـطــرة يحبـــون الثقافــة ويهتمــون بالفـكــر‏..‏ والـثقافـة ليست فقط كتابا نقرأه أو موسيقي نسمعها أو قضية نطرحها ولكن الثقافة سلوك متحضر‏..‏ وعقل واع وإنسان يدرك مسئوليته ودوره في الحياة‏..‏ ولا أدري لماذا تراجعت قيمة الثقافة بين الناس‏..‏ هل هي الأعباء الاقتصادية الضارية‏..‏ هل هي السطحية التي تسربت إلي عقول أبنائنا أمام نظم تعليمية وثقافية تحتاج إلي ثورة كاملة‏..‏ يكفي أن تشاهد حفلات أم كلثوم وتري شياكة الرجل المصري‏..‏ ووقار وترفع المرأة المصرية وحاول أن تقارن بين هذه الصورة وأي اجتماعات أخري تراها الآن لتشعر الفارق بين مجتمع مثقف وأخر تخلي عن ثقافته‏.‏ ولعل الثقافة هي التي كانت تجعلنا نرفض القبح بكل أشكاله في الحوار والفنون‏..‏ والسلوك والبيئة‏..‏ إن التعايش مع القبح ظاهرة غريبة في حياة المصريين وتحتاج إلي دراسة نفسية لمعرفة أسباب هذه الظاهرة‏..‏



‏-‏ لا أدري لماذا دخل المصريـون فـي حالـة مـن الخضـوع والاستـكانـة وعدم الرغبة في المشاركة ابتداء بالنشاط السياسي وانتهاء بالمشاركة الشعبية والنشاط المدني‏..‏ إن أكبر دليل علي ذلك نسبة المشاركين في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي لم تتجاوز‏20%‏ وهذا يعني أن‏80%‏ من المصريين خارج نطاق المشاركة‏..‏ ولنا أن نتصور مجتمعا كاملا لا يبدي رأيا في مستقبله السياسي والأقتصادي والإنساني‏..‏ وإذا كان غياب المشاركة السياسية مرضا مزمنا أصابنا منذ خمسين عاما فإن حجم المشاركة الإنسانية أصبح ضئيلا للغاية وأكبر دليل علي ذلك حجم مشاركات أثرياء مصر وأغنياؤها في مساعدة الفقراء والمحتاجين‏..‏ أن قصور المشاركة السياسية والمشاركة الاجتماعية من أخطر الظواهر التي أصبحت تمثل عبئا حقيقيا علي الشخصية المصرية‏..‏



‏-‏ لا أدري لماذا انتشـرت ظاهـرة الجشع المـادي الرهيـب فـي حيـاتنــا وغاب تماما إحساس جميل أسمه القناعة‏..‏ هل لأن شراسة المجتمع أغلقت كل أبواب الرحمة أم لأن الثراء غير المشروع فتح أبوابا كثيرة لفساد الذمم أم لأن المال العام فقد قدسيته في نفوس الناس فأصبح الاعتداء عليه أمرا مشروعا إن أخطر ما في مصر الآن أشخاص جمعوا أمولا كثيرة بدون وجه حق أو بمعني أخر بلا عمل أو جهد‏..‏ هذه الفئة شكلتها مجموعة تأشيرات صغيرة بقطعة أرض أو مشروع أو سلعة أو صفقه مشبوهة أو مناقصة تنتهي ببضعة ملايين دون أن يفعل صاحبها شيئا غير أن يكون مرضيا عنه‏.‏



هذه الظواهر الجديدة والغريبة في حياة المصريين ابتداء بغياب الانتماء وانتهاء بالجشع المادي الرهيب مرورا علي كل الوان القبح التي تطاردنا تحتاج إلي دراسات ودراسات وأتمني أن يجئ اليوم الذي نملك فيه الشجاعة لكي نواجه أنفسنا بكل هذه التغيرات وكل هذه الظواهر لأنها لا تهدد الحاضر وحده ولكنها تحمل مؤشرات خطيرة في صورة مستقبل الأجيال القادمة‏..‏ أننا نتحدث عن مجتمع كان يوما مدرسة تعلم منها الآخرون ولا أدري كيف تراجع بهذه الصورة المؤسفة‏..‏ إذا أردت أن تعرف حجم الكارثة شاهد حفلة لأم كلثوم لتري الشعب المصري‏..‏ أين كان‏..‏ وكيف أصبح الآن‏.‏



ويبقي الشعر



ماذا يفيد

إذا قضينـا العمر أصناما

يحاصرنا مكان



لم لا نقول أمام كـل الناس ضل الراهبان ؟

لم لا نقول حبيبتي

قد مات فينـا‏..‏ العاشقان ؟



فالعطر عطـرك والمكان هو المكان

لكنني‏..‏

ماعدت أشعر في ربوعك بالأمان



شيء تـكـسر بينـنـا‏..‏

لا أنت أنت‏..‏ ولا الزمان هو الزمان



Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads