هوامش حرة
الوفد.. وتجربة الأحزاب المصرية
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
كثيرون غيري شعروا بالحزن والألم لما أصاب حزب الوفد أقدم قلاع السياسة في مصر وأكثرها بريقا.. كان الوفد أول مدارس الوطنية المصرية ولا أقول السياسة فقط لأنه أستطاع لسنوات طويلة أن يكون صوتا لكل المصريين فهو الحزب المؤسس لما سمي بعد ذلك الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط..
وعلي امتداد تاريخ هذا الحزب العريق دارت معارك كثيرة وظهرت فيه زعامات شامخة بدأت بزعيم الأمة سعد زغلول وانتقلت إلي النحاس باشا بكل تاريخه.. ثم استقرت بعد رحلة عناء وانكسار طويلة مع ثورة يوليو عند الباشا فؤاد سراج الدين.. لم تكن معارك الوفد معارك سياسية فقط بين أحزاب تتصارع أو حكومات تسقط وأخري تجئ ولكنها كانت معارك من أجل استقلال الوطن وتحرير إرادته.. وبناء الأمة فكرا و حضارة.. كان الوفد يسعي دائما لإعادة القرار ليد الشعب من خلال انتخابات نزيهة وديمقراطية حقيقية.. وتأكيد لدور المرأة في التعليم والعمل والحقوق.. وطوال أكثر من نصف قرن من الزمان قاد الوفد سفينة الوطنية المصرية بكفاءة واقتدار واستطاع أن يحتل الصدارة دائما كأعرق الأحزاب المصرية وأكثرها تأثيرا ورصيدا في تاريخ مصر الحديث.
من يشاهد الآن أخبار حزب الوفد في صفحات الحوادث وهو الذي كان يوما يتصدر مانشتات الصحف بمعاركه وإنجازاته الوطنية يتعجب كيف تصغر الأشياء ويتلاشي بريقها وتخبو ملامحها حتي تتحول إلي هياكل هشة لاحول لها ولا قوة.. هل هذا هو الوفد الذي زلزل به سعد زغلول أركان الإمبراطورية البريطانية في أزهي عصورها احتلالا واستعمارا وهيمنة.. هل هذا هوالوفد الذي خرج من صفوفه النحاس باشا ليعلم الأجيال معني الوطنية والانتماء.. هل هذا هو الوفد الذي احتضن فؤاد سراج الدين بكل رصيده السياسي شابا وكهلا..
أن المعارك والتصفيات التي دارت في حزب الوفد أخيرا لا تتناسب أبدا مع اسم ودور وتاريخ هذا الحزب العظيم..
وما حدث في الوفد حدث في أحزاب أخري قبل ذلك فقد دارت معارك بين المسئولين في الأحزاب المختلفة وكل مسئول يتصور أنه زعيم سياسي وإذا حاولت أن تحصي عدد أعضاء الحزب أو تواجده في الشارع أصابك الحزن والأسي لما ألت إليه تجربة الأحزاب السياسية في مصر..
وعندما يصل الداء إلي حزب في تاريخ الوفد ومسئولياته يصبح للكارثة حجم آخر..
إن جميع الأحزاب التي أنشأتها الدولة المصرية أحزاب أقيمت بقرار.. أي أنها نشأت بإرادة السلطة ولكن الوفد هو الحزب الوحيد الذي حمل خلفه كل تاريخ العمل السياسي والوطني في مصر.
فإذا كانت الصراعات بين الأحزاب الأخري عملا مشروعا فإنها خطأ فادح في ساحة الوفديين.. وإذا كانت الأحزاب الأخري لا تخاف علي تاريخ ولا تحزن علي ماض فإن الوفد ليس ملكا للمسئولين عنه ولكنه ملك لكل المصريين.. أننا جميعا نعلم الظروف السياسية والتاريخية التي نشأت فيها الأحزاب الحالية وهي في الحقيقة لم تكن أكثر من ديكور يزين وجه السلطة في مرحلة تاريخية معينة ولهذا جاءت هذه الأحزاب وهي لا تحمل تاريخا وليست لها برامج واضحة وكانت لها أدوار محددة لم تتجاوزها في معظم الأحيان وحينما حاول حزب من الأحزاب أن يختبر قدراته ويخرج للناس أطيح به في لحظه وهذا ما حدث مع حزب العمل وصحيفة الشعب منذ سنوات.. والشيء المؤكد أن الأحزاب الحالية جميعها وبلا استثناء تفتقد عناصر أساسية في تكوينها.. أنها تفتقد التأثير في الشارع المصري وقد كان ذلك واضحا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أكدت لنا جميعا أن الأحزاب المصرية في حاجة إلي إعادة بناء بل أننا قد تأكدنا من تجربة الانتخابات أننا في حاجة إلي تجربة حزبية جديدة إذا كنا بالفعل جادين في الوصول إلي ديمقراطية حقيقية..
إن الأحزاب المصرية أيضا تفتقد الزعامات وأرجو ألا يغضب هذا زعامات تاريخية نعتز بها ولكن هذه الزعامات بكل ثقلها تعرضت لاختبارات صعبة في الشارع المصري عندما خرجت بهزائم ثقيلة في الانتخابات الأخيرة.
يضاف لذلك كله أن رصيد الأحزاب المصرية لا يتجاوز حدود المقر والصحيفة.. هذا كل ما فعلته هذه الأحزاب في الشارع المصري لسنوات طويلة.. وكان السؤال الذي يلح علينا دائما أين الكوادر السياسية التي ظهرت في هذه الأحزاب.. وأين نشاطها الفكري والثقافي في الشارع المصري وأين أثرها الواضح في فكر الأجيال الجديدة من الشباب وأين دورها في حياة المرأة المصرية.. وأين هي من قضايا البطالة والمخدرات والعنف والجريمة.. إن الأحزاب السياسية ليست فقط لافتات أوشعارات أو أحلام خادعة ولكنها واقع يعيشه الناس ومستقبل يحلمون معه..
والغريب أن الأحزاب المصرية أكتفت بمقالات كتابها حتي ولو لم يقرأها أحد.. وشعارات حوارييها حتي وأن لم يتحقق منها شيء.. وهذا كله أبعد ما يكون عن النشاط الحزبي الحقيقي.. إن العمل الحزبي تفاعل مع الناس.. ومواجهة للمشاكل وإيمان حقيقي بالتغيير ومسئولية ثقافية وحضارية وإنسانية.. ولا يمكن أن يكون النشاط الحزبي مجرد نشرات نصدرها أو مؤتمرات سنوية نقيمها أو مناصب نصر علي البقاء فيها..
في الدول التي تمارس العمل الحزبي بأصوله تتغير قيادات الحزب من وقت لآخر.. وإذا فشلت في انتخابات أو مواجهات مع السلطة فإنها تنسحب وتترك الساحة لغيرها. وهذا لم يحدث في مصر مرة واحدة في السنوات الأخيرة.. كانت الأحزاب تنتقل من هزيمة إلي هزيمة ومن كارثة إلي أخري وقادتها لا يتركون مواقعهم.. إن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة وما حدث فيها كانت وحدها كافية لأن تطيح بكل رؤوس الأحزاب المصرية مرة واحدة ولكن هذا لم يحدث.. وكان ينبغي أن تكون هناك مراجعة شاملة لما حدث في هذه الانتخابات.. ولكن ذلك لم يحدث.. واكتشفت الأحزاب حقيقة وجودها في الشارع المصري ولم تتحرك لكي تعالج جوانب القصور في مواقفها.. ولهذا يجب أن تكون لدينا الشجاعة ونقول بصراحة أن التجربة الحزبية في مصر تحتاج إلي إعادة النظر في كل جوانبها أحزابا وقيادات ومسئولية.. ولا يعقل أن يكون لدينا ما يقرب من عشرين حزبا ونكتشف في ساعة الحسم غيابها الكامل عن الساحة.. لقد خرجت التجربة من جيب السلطة ويجب أن تصبح جزءا من الناس..
واكتفت الأحزاب بالمقر والصحيفة ويجب أن يكون مقرها كل شارع وصوتها صوت كل مواطن.. وبعد ذلك يأتي الدور علي زعامات هذه الأحزاب التي بقيت في مواقعها سنوات وسنوات دون أن تحقق إنجازا أو تغير فكرا أو تتخذ موقفا رغم هذا تصر علي البقاء في مواقعها وإغلاق كل الفرص أمام الأجيال الجديدة..
أن التجارب الفاشلة لا يمكن أن تبني مستقبل الأحزاب المصرية سواء بقيت أو تغيرت.. وما حدث في حزب الوفد درس عميق لبقية الأحزاب وحتي لا تتكرر المأساة في مواقع أخري ينبغي أن يسارع المسئولون في هذه الأحزاب لتدارك الموقف وتفادي هذا المأزق الكبير..
أعود إلي حزب الوفد العريق وأقول.. لو كنت في موقع د/ نعمان جمعة وأنا أعتز به شخصا وتاريخا لما ترددت لحظة في أن أترك سفينة الوفد لربان أخر يختاره الحزب العريق.. لقد أدي د/ جمعة دوره في خدمة الوفد بقدر إمكانياته وما أتاحته السلطة له.. وجاء الوقت لكي يبدأ الوفد مرحلة جديدة من تاريخه.. ويجب أن يكون الوفديون كما عهدناهم دائما متمسكين بنبل مواقفهم مع رموزهم ود/ جمعه واحد من هذه الرموز..
بقي بعد ذلك كله أن ترفع الدولة يدها عن حزب الوفد وتتركه لحال سبيله لأن الوفد لا يريد من الحكومة دعما.. ولا يريد منها مساعدة خاصة أنها لم تكن يوما حريصة علي أن تترك الأحزاب تؤدي دورها بالصورة المطلوبة..
إن الدولة تتحمل جزء كبيرا من مسئولية فشل التجربة الحزبية في مصر وآن الأوان أن تترك الأحزاب بما فيها حزب الوفد بعيدا عن المعالجات الأمنية وموقف لجنة الأحزاب ومجلس الشوري وتوابعهم.. إن حزب الوفد قادر علي أن يتجاوز محنته وهي بكل تأكيد تحتاج إلي حكمة أبنائه خاصة أنه ليس من حق الدولة أن تساند تيارا علي حساب تيار أخر أو تتدخل لفرض وصاية غير مشروعه علي حزب سياسي عريق في حجم الوفد وتاريخه.. ولعل ما حدث في الوفد يكون بداية ثورة حقيقية في كل الأحزاب فالشعوب لا تحيا بالماضي وحده.
ويبقي الشعر
لـم يبق شـيء للطـيور
علـي ضفـاف النـيل
غـير الحزن يعصف بالجوانح
زمن العصافير الجميلة قد مضي
وتحكـمت في النهر أنياب جوارح
زمن القراصنة الكـبار
يطل في حزن العيون..
وفي انطفاء الحلم..
في بؤس الملامح..
