دموع البسطاء

هوامش حرة

دموع البسطاء

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة




من وقت لأخر تبتلع أمواج البحر عددا من أبناء مصر الغلابة الذين لاحول لهم ولاقوة ولا سلطان ولا أدري لماذا تختار الكوارث وسوء الحظ البسطاء من أبناء هذا البلد‏..‏ منذ سنوات كانت كارثة سالم اكسبريس التي أدمت قلوبنا وراح ضحيتها أكثر من ألف شخص أكلتهم أسماك البحر الأحمر‏..‏ وبعدها كانت كارثة ثانية وثالثة‏..‏ ثم كانت مأساة قطار الصعيد والأجساد التي تفحمت في عيوننا ثم كانت محرقة المسرح في بني سويف‏..‏ وها هي مأساة أخري تضاف إلي هذا الملف الدامي في تاريخنا مع الكوارث في عبارة السلام‏98‏ وأكثر من ألف أسرة تبكي الآن راحلا عزيزا سواء كان أبنا أو أبا أو زوجا أو زوجة‏..‏



لا نستطيع أن نقول أنه القضاء والقدر لأن هذا أمر بيد الله ونحن مؤمنون ولكن ماذا عن الإهمال‏..‏ والتهاون في عمليات الإنقاذ‏..‏ والتحايل علي القوانين وإطلاق سفينة عمرها أربعون عاما في قلب البحر دون ضوابط أو تقدير للمسئولية‏..‏ لقد أصبح لدينا تاريخ حافل في القتل بالعبارات لا أعتقد أن دولة أخري وصلت إليه منذ فاجعة تايتنيك التي ابتلعها المحيط في بداية القرن الماضي‏.‏



أليس غريبا أن يبقي طفل صغير يصارع الأمواج ثلاثين ساعة بلا أحد ينقذه‏..‏ وأن تبقي السفينة في عمق البحر تسع ساعات كاملة حتي يتم الإبلاغ عن غرقها‏..‏ وكيف نترك سفينة تحمل هذا العدد من البشر دون الاتصال بها كل دقيقة وليس كل نصف ساعة‏..‏ ولو أن في هذه السفينة واحدا من أبناء كبار المسئولين في مصر سواء كان وزيرا أو رئيس حكومة هل كان والده سينام قبل الاطمئنان علي وصول السفينة حتي لو أخذ طائرة وحلق بها فوق مياه البحر باحثا عن ابنه‏..‏ إن عمر السفينة الغارقة يقترب من الأربعين عاما تغيرت فيها أشياء كثيرة في هذا العالم في وسائل الاتصال ودرجة الاحتمال والصيانة‏..‏



فكيف بقيت هذه السفينة كل هذا العمر تجوب البحار وتحمل الموت في كل رحلة‏..‏ إن الأخطر من ذلك أن تقارير المؤسسات الدولية سواء من إيطاليا أو غيرها وثائق‏'‏ مضروبة‏'‏ من مؤسسات مشبوهة لا تفحص ولا تدرس ولا تبحث عن الحقيقة وتعطي تقارير عن الأمن والسلامة حيث لا أمن فيها ولا سلامة‏..‏



إن القانون المصري يحرم إبحار السفن التي يزيد عمرها علي عشرين عاما ويمنعها من رفع العلم المصري فلماذا لا ينفذ القانون علي كل السفن التي تعمل في المياه المصرية وتحمل آلاف المصريين كل يوم‏..‏ إن هناك معلومات تؤكد أن هناك ثلاثة طوابق وكبائن أضيفت إلي السفينة وأن الميل المفاجئ للسفينة كان بسبب إقامة هذه الأدوار حتي التجاوزات في المباني والرخص المضروبة لم تترك المياه المصرية بعد أن أفسدت كل مدنها العريقة بتلك الأبراج المشوهة القبيحة‏.‏



والسؤال الأخطر الذي ينبغي أن نجيب عليه أين دوريات الحراسة في مياهنا الإقليمية من اللنشات وطائرات الهليوكبتر ولماذا لا تكون هناك رقابة دائمة في تلك المناطق التي تبحر فيها هذه السفن التي تحمل آلاف المصريين كل يوم‏..‏ إننا مع كل كارثة نقول أننا سنغير القوانين‏..‏ ونضع اللوائح‏..‏ ونعيد النظر في أحوالنا وبعد أن تهدأ العاصفة ويصرف الورثة ملاليم التعويض ويرتاح الموتي في قبورهم وتنتهي مراسم العزاء ننسي كل شيء‏..‏ ومع النسيان تعود إلي البحر السفن القديمة وتعود معها أساليب التحايل والتضليل حتي نفيق علي كارثة أخري‏..‏



كانت وجوه الساخطين من أبناء المحافظات الغلابة الذين ذهبوا إلي ميناء سفاجه للبحث عن ذويهم أحياء أو موتي شهادة دامية لمجتمع يعيش خارج العصر وخارج الزمن وأصبحت الكلمة الوحيدة فيه‏..‏ للمال‏..‏ والمال وحده‏.‏ إن البحث عن الثراء مشروعا أو غير مشروع هو الذي قلب موازين هذا البلد حتي ولو كان ثمن ذلك أرواح الالاف من البشر الذين قتلهم الجشع‏..‏ وأغرقهم الإهمال والتحايل‏..‏ وكان إهمال المسئولين للمواطنين في ميناء سفاجة كارثة أخري في سوء المعاملة وعدم الإهتمام والذي انتهي بالاعتداء علي أهالي المفقودين والمصابين والناجين‏.‏



وفي زحمة كأس الأمم الأفريقية وفي صرخات الجماهير وأهداف اللاعبين أختفي في البحر ألف مواطن مصري بكل أحلامهم وأمالهم وغربتهم بحثا عن لقمة عيش شريفة لم يوفرها وطن أعتاد أن يأكل أبناءه‏..‏



سوف ترتفع صرخات المصريين هذه الأيام أمام أقدام اللاعبين وهي تهز الشباك بينما يرقد في أعماق البحر الأحمر مئات من الشباب والشيوخ والأطفال ضمن احتفالية أخري لأسماك القرش في وليمة مصرية خالصة من فقراء الوطن المنكوب‏..‏



سوف تختفي أخبار السفينة‏..‏ وتغلق ملفات التحقيق لنفتح صفحة جديدة في ملف قديم أسمه القضاء والقدر لنكتب فيه قصة من قصص الإهمال والتسيب في مصر المحروسة تحت عنوان مأساة عبارة السلام‏98..‏ ونغلق الملف وسط سخرية شديدة من القدر الذي يتساءل دائما بحسرة لماذا أصبحت الكوارث من حظ المصريين‏.‏



ويبقي الشعر






‏(‏ من سالم إكسبريس إلي السلام‏98)‏

أنـا من سنين لـم أره

لـكن شيئا ظـل في قـلـبي زمانا يذكـره‏..‏



عمي فرج‏..‏

رجل بسيط الحال

لم يعرف من الأيام شـيئا



غير صمت المتـعبـين

كنـا إذا اشـتدت ريـاح الشك



بين يديه نـلتمس اليقين‏..‏

كـنا إذا غـابت خـيوط الشـمس عن عينـيه

شـيء في جوانحنـا يضل‏..‏ ويستكين

كنـا إذا حامت علي الأيام أسراب



من اليأس الجسور نـراه كـنز الحالمين‏..‏

كـم كـان يمسك ذقـنه البيضاء في ألم

وينظـر في حقول القـمح

والفئـران تـسكـر من دماء الكـادحين



عمي فـرج‏..‏

يوما تقلـب فـوق ظـهر الحزن

أخـرج صفحة صفراء إعلانا بـطـول الأرض

يطلب في بـلاد النـفـط بعض العاملين



همس الحزين وقـال في ألم‏:‏

أسافر‏..‏ كـيف يا الله



أحتمل البعاد عن البنية‏..‏ والبنين ؟‏!..‏

لم لا أحج‏..‏ فـهل أموت ولا أري



خير البرية أجمعين‏..‏

لم لا أسافر‏..‏ كلـها أوطـانـنـا‏..‏

ولأنـنـا في الهم شـرق‏..‏ بيننا نسب ودين‏.‏

لـكنه وطـني الـذي أدمي فـؤادي من سنين



ما عاد يذكرني‏..‏ نـساني‏..‏

كـل شيء فيك يامصر الحبـيبة



سوف يـنسي بعد حين‏..‏

أنا لـست أول عاشق نـسيته هذي الأرض



كم نـسيت ألوف العاشقين‏..‏

عمي فرج‏..‏

قـد حان ميعاد الرجوع إلي الوطـن

الكـل يصرخ فـوق أضواء السفينة

كـلـما اقـتـربت خيوط الضوءعاودنا الشـجن



أهواك يا وطني‏..‏

فلا الأحزان أنـستني هواك ولا الزمن



عمي فرج‏..‏

وضع القميص علي يديه

وصاح‏:‏ يا أحباب لا تتعجبوا

إني أشم عبير ماء النـيل فوق الباخره

هيا احملـوا عيني علي كفي

أكاد الآن ألمح كل مئذنة



تطـوف علي رحاب القاهره‏..‏

هيا احملوني



كـي أري وجه الوطـن‏..‏

دوت وراء الأفق فرقـعة

أطاحت بالقـلوب المستـكينه

والماء يفتـح ألف باب

والظـلام يدق أرجاء السفينه

غاصت جموع العائدين تناثـرت

في الليل صيحات حزينه



عمي فرج‏..‏

قـد قام يصرخ تـحت أشـلاء السـفينه

رجل عجوز

في خريف العمر من منكم يعينه

رجل عجوز آه يا وطني

أمد يدي نحوك ثم يقطعها الظـلام

وأظل أصرخ فيك‏:‏ أنقذنا‏..‏ حرام



وتسابق الموت الجبان‏..‏

واسودت الدنيا وقـام الموت

يروي قصة البسطاء



في زمن التـخاذل والتنـطـع والهوان‏..‏

وسحابة الموت الكـئيب

تـلف أرجاء المكـان



عمي فرج‏..‏

بين الضحايا كان يغمض عينـه

والموج يحفر قبره بين الشـعاب‏.‏

وعلي يديه تـطل مسبحة ويهمس في عتاب

الآن يا وطـني أعود إليك



تـوصد في عيوني كل باب

لم ضقـت يا وطني بـنـا

قد كـان حلـمي أن يزول الهم عني‏..‏ عند بابـك

قد كان حلمي أن أري قبري علي أعتابـك

الملح كفـنني وكان الموج أرحم من عذابـك



ورجعت كـي أرتاح يوما في رحابك

وبخلت يا وطني بقبر يحتويني في ترابك

فبخلت يوما بالسكن

والآن تبخـل بالكفـن



ماذا أصابك يا وطـن‏..‏



Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads