هوامش حرة
أيام في السودان (3)
فرصة تاريخية
يكتبها: فـاروق جـويـدة
لا شك أن أمامنا فرصة تاريخية لكي نعيد العلاقات المصرية ـ السودانية إلي مجراها الطبيعي الذي يتناسب مع الثوابت التاريخية والإنسانية بين الشعبين الشقيقين.. ولعلنا الآن ومن خلال تجارب سابقة قد استوعبنا تماما مجموعة الأخطاء التي تركت ظلالا من الجفاء في مراحل سبقت.. وعلينا الآن في الخرطوم والقاهرة أن نراجع أنفسنا بأمانة علي المستوي الشعبي والرسمي لكي نضع أقدامنا علي بداية جديدة تحقق آمالنا وأحلامنا في علاقات أفضل وتواصل أكمل في السنوات المقبلة.
هناك مجموعة أسباب تجعل من هذه الفرصة بداية طيبة.. يأتي في مقدمتها أن زيارة الرئيس مبارك للخرطوم في الشهور الماضية قد تركت آثارا عميقة لدي الشعب السوداني.. يضاف لهذا أن السودان يحتفل هذه الأيام باتفاق السلام في الجنوب. ولا شك أن مصر الدولة والشعب تشارك الشعب السوداني الشقيق هذه الفرحة.. ثم كان اللقاء الأخير بين الرئيس مبارك والسيد علي عثمان طه النائب الأول للرئيس السوداني..
وقبل هذا كله فإن مصر والسودان يواجهان معا أخطارا مشتركة ومتشابهة. وهناك أيد خفية تحاول منذ زمن بعيد أن تقطع جسور التواصل والمودة والعلاقات التاريخية التي ربطت مصر بالسودان..
وأمام ظروف دولية صعبة.. وأزمات حادة تواجه المنطقة كلها يصبح التقارب المصري ـ السوداني أكثر من ضرورة. فلا مستقبل للكيانات الصغيرة. وليس من الصعب أبدا أن يكون التلاحم المصري ـ السوداني بداية ظهور كيان كبير فعال ومؤثر في وقت تشرذمت فيه كل القوي السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية أمام طغيان القوة وسفه الاستغلال.
هذه الجوانب يمكن أن تعطي دفعة قوية للعلاقات المصرية ـ السودانية.. والذي أعرفه أن القيادة السياسية في مصر تعطي أهمية خاصة للسودان بل إنه يمثل واحدة من أهم وأخطر أولويات القرار السياسي المصري, وهناك توجيهات واضحة من الرئيس مبارك للحكومة بتوفير كل الظروف وتهيئة المناخ المناسب للدفع بالعلاقات المصرية ـ السودانية في كل مجالات التعاون اقتصاديا وسياسيا وثقافيا.
من هنا أضع بعض الملاحظات والاقتراحات التي يمكن أن تسهم في هذا التوجه الذي يمثل أهمية خاصة..
بداية الخرطوم تحتاج إلي سفارة مصرية علي أعلي مستوي من التمثيل الدبلوماسي.. تؤمن إيمانا عميقا بالعلاقات التاريخية بين البلدين وتؤدي دورها ورسالتها من هذا المنطلق.. انها ذهبت هناك من أجل دور ومسئولية تتجاوز في كل شيء حدود العمل الدبلوماسي في السفارات الأخري.. نريد سفارة تشارك في عودة جسور التواصل بين البلدين, وينبغي أن تكون سفارة مصر في الخرطوم أكبر سفاراتنا علي الإطلاق من حيث العدد والإمكانات والمسئولية والدور.
ومن هنا ينبغي أن يكون لدينا في الخرطوم مركز ثقافي كبير يشارك في دعم العلاقات الثقافية بين القاهرة والخرطوم وأن يكون هناك مكتب تجاري ضخم تتوافر له كل إمكانات العمل.. وأن يكون لنا مكتب عمالي لتنسيق عمليات التبادل في العمالة بين مصر والسودان من حيث سرعة الاجراءات والرعاية والتوجيه.. من هنا أيضا يجب تقديم كل وسائل الدعم للمكتب الإعلامي ماليا واداريا..
ان سفارات مصر في دول أوروبا وآسيا مزدحمة بالكوادر علي كل المستويات, بينما نجد سفارتنا في السودان تحتاج إلي دعم أكبر.. ولعل هذا أيضا ما تعانيه السفارة السودانية القابعة في جاردن سيتي.. وهذا عمل وجهد مشترك ينبغي أن يلقي دعما كبيرا من القاهرة والخرطوم, وأنا هنا لا أتحدث عن الإمكانات البشرية ولكن عن الجوانب الادارية والمسئوليات العديدة التي ينبغي أن يشملها عمل السفارة في البلدين من حيث التنسيق والتعاون ومواجهة المشكلات والعقبات.
* في العام المقبل ستكون الخرطوم عاصمة للثقافة العربية وفي هذه المناسبة ينبغي أن يكون الوجود المصري فعالا ومؤثرا طوال العام.. يجب أن تشارك قوافل الثقافة المصرية بمثقفيها وكتابها وفنانيها في هذه المناسبة التاريخية.. ان العرس الثقافي الذي ستقيمه الخرطوم في عام2005 كعاصمة للثقافة العربية يجب أن يكون عرسا مصريا ـ سودانيا.. وينبغي أن نستعد له من الآن بمواكب المثقفين والفنانين بحيث يشمل احتفاليات ضخمة.. ومعارض.. وندوات.. ومحاورات حول مستقبل العلاقات المصرية ـ السودانية يشارك فيها المثقفون المصريون مع أشقائهم من المثقفين السودانيين.. ان مصر ترسل كل يوم وفدا ثقافيا للحوار مع ما يسمونه الآخر في باريس ولندن وواشنطن.. رغم أن الشطر الثاني من الوادي هو الأحق بالحوار.. وهو الأجدر بالسفر.. وهو الأولي بالاهتمام.
* في الخرطوم علمت أن بعض رجال الأعمال المصريين اتجهوا إلي السودان خاصة بعد أن لاحت في الأفق بشائر السلام واتجه هؤلاء إلي منطقة الجنوب.. وفي تقديري أن ذلك يتطلب من الحكومة المصرية التنسيق بين هؤلاء وأن يتم ذلك تحت رعايتها, لأننا في حاجة إلي رجال الأعمال الجادين وليس المغامرين الذين ينتهزون الفرص.. يجب أن تشجع الحكومة رجال الأعمال المصريين للذهاب إلي السودان وفي الوقت نفسه تفتح الأبواب في مصر لرجال الأعمال السودانيين خاصة في ظل اتفاقيات وقعتها الحكومتان لفتح مجالات الاستثمار والسفر وحرية التملك وغيرها من الوسائل التي تشجع انتقال رءوس الأموال بلا مشكلات أو عقبات.
وهنا نأتي إلي قضية مهمة وهي العلاقات التجارية بين البلدين.. في الخرطوم يقولون لك إن المواطن السوداني يحب كل ما هو مصري ابتداء بالملابس وانتهاء بالدواء ولكن في السنوات الأخيرة تراجعت واردات السودان من مصر أمام الارتفاع الرهيب في أسعار السلع المصرية.. ومن هنا جاءت موجات الاستيراد من تركيا والأردن وسوريا والمغرب, حيث تغطي سلع ومنتجات هذه الدول الأسواق السودانية.. وهنا ينبغي أن ندرس بجدية موقف صادراتنا إلي السودان وهل هناك مبالغة في الأسعار وكيف نعيد الانتاج المصري إلي الأسواق السودانية.. في جانب آخر يجب أن نشجع الاستيراد من السودان خاصة في سلع نحتاجها ومنها اللحوم وبعض المواد الغذائية والمنتجات الجلدية..
ان المشروعات القديمة للتعاون الزراعي يجب أن يعاد طرحها للنقاش مرة أخري خاصة زراعة القمح في السودان وسامح الله وزارة الزراعة المصرية التي استعانت بالخبراء من إسرائيل وأغلقت ملف التعاون الزراعي بين مصر والسودان عشرين عاما كاملة.. هذا الملف يجب أن يعود مرة أخري إلي دائرة الاهتمام والبحث بين مصر والسودان.
* لا أتصور أن يغيب تماما الدور الشعبي ممثلا في النقابات المهنية والجمعيات والأحزاب والتجمعات الشعبية في مصر والسودان.. في الخرطوم يقولون لك إن آخر ذكرياتهم مع الفن المصري كانت رحلة أم كلثوم.. وأن آخر عهدهم بالمثقفين المصريين كان من سنوات بعيدة.. وان مصر الثقافة نسيتهم.. رغم أنها مازالت في الذاكرة.. أين نقابات المحامين والأطباء واتحاد الكتاب والصحفيين والفنانين والمجلس القومي للمرأة؟.. وأين الأحزاب المصرية وعلي رأسها الحزب الوطني الحاكم؟.. وفي المقابل يجب أن تسعي القاهرة لاستقبال الأشقاء من الجنوب في لقاءات تعيد تواصل ما انقطع في سنوات الجفوة..
* هنا أيضا ينبغي أن تدرس الحكومتان مجالات التعاون والاستثمار علي أوسع نطاق في ظل تنسيق كامل في كل المجالات.. واذا كنا عاجزين عن استرجاع الماضي بكل ثوابته فلا أقل من أن نتعامل بلغة العصر.. لغة المصالح.
رغم أن زيارتي للخرطوم كانت قصيرة إلا أنها تركت لدي إحساسا عميقا بالانتماء لهذا البلد الشقيق.. كانت حفاوة كبار المسئولين بزيارتي تعكس هذا الود العميق بين الشعبين في مصر والسودان.. الأستاذ عبدالباسط عبدالماجد وزير الثقافة عاشق من عشاق مصر القدامي لم يتركني لحظة في كل لقاء أو حفل أو تكريم.. والشاعر المتألق صديق المجتبي وزير الدولة للثقافة والذي كم تغني في شعره بالنيل أرضا وناسا.. والأستاذ عبدالقادر زين محافظ أم درمان.. ونخبة من شباب اتحاد طلاب الخرطوم وهم الشباب الواعد عمار عبدالرحمن والشفيع محمد علي وزهور كثيرة تشرق الآن علي شاطئ النيل العريق في ربوع السودان تحمل الأمل في مستقبل أفضل.
في السودان تجربة فريدة في التلاحم والتواصل بين الأجيال ان اتحادات الطلاب من أهم التجمعات الشبابية ولها دور بارز في الحياة العامة, في الشارع السوداني.. انهم يقدمون الكتب والملابس والطعام والسكن, ويقيمون المشروعات لتوفير فرص العمل للخريجين.. وبينهم وبين مؤسسات الدولة علاقة خاصة تتجسد في دعمهم ماديا ومساندتهم فكريا.. ولهذا لم يكن غريبا أن معظم الوزراء في الحكومة السودانية كانوا ممثلين في الاتحادات الطلابية في السنوات الماضية بما فيهم الرئيس عمر حسن البشير رئيس الدولة ونائبه الأول السيد علي عثمان طه, ومجموعة كبيرة من الوزراء.. والملاحظة الثانية أن معظم المسئولين في الحكومة السودانية من الوزراء أو المحافظين كانوا في الأساس أطباء من خريجي كليات الطب.. وفي السودان علاقة حميمة بين الأجيال في مواقع المسئولية. وربما يرجع السبب في ذلك إلي أن نسبة كبيرة من الشباب يحتلون مواقع قيادية مهمة سواء في الحكومة أو مؤسسات الدولة.
ومهما أقل عن السودان وحفاوة أهل السودان.. فالكلام لا يكفي.. وتبقي علاقات مصر والسودان جزءا عزيزا في حياتنا حتي وإن عصفت بنا الأيام هنا أو هناك.. لأن ما بيننا أكبر بكثير من زوابع السياسة ومتغيرات الزمن والحياة.