هوامش حره : محنــة الإعلام المصــرى

هوامش حره
محنــة الإعلام المصــرى
بقلم: فاروق جويدة
22/07/2011




هناك انتقادات كثيرة تحاصر الإعلام المصرى فى الفترة الأخيرة ولاشك أن الكثير من هذه الانتقادات لا يتجاوز الحقيقة لأن الإعلام المصرى يعيش الآن بالفعل أسوأ حالاته تعبيرا والتزاما ودورًا وتمويلا ..
كان الإعلام المصرى إحدى القلاع الأساسية التى قام عليها بناء الدولة المصرية الحديثة وهو من المؤسسات التى حملت تاريخا مضيئا وقدمت للعالم العربى نماذج رفيعة فى الموقف والدور والسلوك .. لا يستطيع أحد أن ينكر أو يتجاهل دور الصحافة المصرية العريقة عبر تاريخها الطويل ويكفى أن لدينا مؤسسات صحفية مثل الأهرام ودار الهلال تجاوز عمرها مائة عام وأصبحت من النماذج الفريدة فى تاريخ الصحافة العالمية ..
لا يستطيع أحد أن ينكر دور الإذاعة المصرية وهى من أهم معاقل الثقافة المصرية فى عصرها الذهبى من خلال كتاب مصر ومفكريها ومبدعيها الكبار .. وكانت مصر أول دولة عربية تشهد البث التليفزيونى وكان التليفزيون المصرى أول مدرسة للإعلام العربى الحديث .. ولم يقتصر دور الإعلام المصرى على الحياة الثقافية والسياسية فى مصر، ولكنه كان الشعلة التى أضاءت العقل العربى سنوات طويلة وعلى يدى الإعلاميين المصريين تخرجت أجيال كثيرة فى العالم العربى ..
وإذا حاولنا أن نقارن بين دور الإعلام المصرى ورسالته فى الماضى وما يحدث الآن فسوف نكتشف أن هناك تراجعا رهيبا فى المستوى المهنى والأخلاقى .. لقد اتسعت دائرة الإعلام المصرى فى كل المجالات ولكن هذا التوسع الكمى لم يواكبه بنفس الدرجة التزام أخلاقى أو مهنى .. لقد ساءت أحوال الإعلام المصرى وأصبح يمثل أسبابا رئيسية لظواهر كثيرة سلبية فى حياة المصريين ..
لقد هبطت لغة الحوار إلى أدنى مستوياتها واستطاع الإعلام بكل وسائله أن يشجع على استخدام لغة سوقية لا تتناسب مع مسئوليته ودوره فى تشكيل وجدان المواطن والارتقاء بفكره ..
ومع هبوط لغة الحوار كانت هناك سقطات دامية لا يمكن تجاهلها فى التحريض على الفتنة الطائفية بين المواطنين وقد ترتبت على ذلك اضرار كثيرة .. وهناك أجيال نشأت وكبرت على الثقافة الإعلامية أمام فساد برامج التعليم وغياب الثقافة الحقيقية وهذه الأجيال تعانى الآن من تراجع فكرى وثقافى واضح وصريح ..وهنا أيضا لا نستطيع أن نتجاهل أن الإعلام يتحمل مسئولية تثقيف أكثر من 25 مليون مواطن مصرى لا يقرأون ولا يكتبون وبجانب هذا فإن الإعلام يتحمل مسئولية إفساد الذوق المصرى من خلال الفن الهابط الرخيص الذى روجه الإعلام بكل وسائله ..
هناك جانب آخر مارسه الإعلام المصرى فى ظل النظام السابق وهو التضليل السياسى حين تحولت أجهزة الإعلام إلى أبواق للنظام بكل آلياته ومؤسساته ابتداء بانتخابات الحزب الوطنى المزورة وانتهاء بتبرير الأخطاء والهرولة فى مواكب الوزراء ورجال الأعمال ..
وكان من أخطر ظواهر الفساد الإعلامى زواج الإعلام والإعلان وتلك العلاقات المشبوهة بين رأس المال ورموز الإعلام والتى وصلت إلى صفقات مشبوة فى التجارة والسلوك والأخلاق ..
ولابد أن نعترف بأن مؤسسات الدولة قد شاركت فى إفساد الإعلام المصرى طوال السنوات الماضية .. لقد أفسدت الدولة المؤسسات الصحفية حين وضعت قواعد مشوهة لاختيار المسئولين عن الصحافة القومية وأسقطت كل معايير الكفاءة والتميز والالتزام المهنى والأخلاقى .. وأفسدت الدولة الصحافة المصرية حين سمحت بإختراقها من أجهزة الأمن فتحول الصحفيون والإعلاميون إلى أدوات فى يد الأجهزة الأمنية وأصبحنا نعانى الآن من أجيال من الصحفيين الذين تربوا فى أحضان الأمن بعيدًا عن أخلاقيات وثوابت العمل الصحفى مهنيا وأخلاقيا ..
على جانب آخر لم يتردد المسئولون فى مؤسسات الدولة فى تقديم مرتبات مذهلة لإعداد كبيرة من الصحفيين والإعلاميين فى صورة أعمال استشارية وإن كانت فى حقيقتها وسيلة شراء للضمائر والمواقف والمسئوليات ..
وحين تضخم نفوذ رجال الأعمال وتم الزواج الباطل بين السلطة ورجال الأعمال دخل الإعلاميون فى هذه الصفقات وتحولوا إلى أبواق لرجال الأعمال بل أن الكثيرين منهم دخلوا مجالات البيزنس وأعمال السمسرة والتجارة وتحولوا إلى تجار فى أسواق نهب الأراضى وبيع أصول الدولة ..
ولم تكن شاشات التليفزيون بعيدة عن محاولات الإفساد التى روجتها مؤسسات الدولة فى أجهزة الإعلام .. كانت البرامج تباع جهارًا نهارًا وكانت صفقات الإعلانات الحكومية والخاصة برجال الأعمال توجه السياسات الإعلامية،وكان رجال الأعمال يحركون الإعلام المصرى ويتحكمون فى برامجه وشاشاته ..
ومع اتساع نفوذ طبقة رجال الأعمال دخل عدد كبير منهم سوق الإعلام منتجا ومشاركا وصاحب مشروعات .. وهنا بدأ مسلسل الفضائيات الخاصة والصحف الخاصة وتحولت هذه المؤسسات إلى أدوات نفوذ وتخليص مصالح وافتقدت فى أحيان كثيرة للمعايير المهنية والأخلاقية أمام شراسة رأس المال ومشروعاته التوسعية ..
وإذا كانت مؤسسات الدولة قد اخترقت وسائل الإعلام من خلال الإعلانات والصفقات وشراء الضمائر الا أن الغريب أنها سمحت بعد ذلك لرجال الأعمال أن يقيموا تشكيلات إعلامية تحمى مصالحهم .. ثم تطور الأمر وبدأت عمليات اختراق خارجية للإعلام المصرى فى توجيهه وتمويله ومساندته دون رقابة من أجهزة الدولة ..
كان اختراق رأس المال الأجنبى والعربى للإعلام المصرى من أخطر الظواهر التى أفسدت دوره ومسئولياته وأخلاقيات العاملين فيه وللأسف الشديد أن مؤسسات الدولة أغمضت عينها زمنا طويلا ولم تحاول إنقاذ الإعلام المصرى من هذه الكارثة ..
ومع قيام ثورة يناير بدأ الحديث عن دور الإعلام السلبى وتكشفت خبايا كثيرة كان النظام السابق يخفيها .. بعد قيام الثورة ورحيل النظام اندفعت فلول كثيرة تحاول انتهاز الفرصة وملء الفراغ .. فى أشهر قليلة ظهرت صحف وشاشات وفضائيات دون أن يكون هناك احتياج حقيقى لذلك كله .. حاولت قوى كثيرة أن تجد لنفسها مكانا بعد الثورة .. فى ظل سقوط منظومة الزواج الباطل بين السلطة ورجال الأعمال ،حاول رجال الأعمال البحث عن مصادر أخرى للحماية والنفوذ وكان الإعلام من أهم هذه المصادر وهنا تسابق الجميع نحو امتلاك وسائل الإعلام .. يضاف لهذا أن رموز النظام السابق كان لديهم استعداد لتمويل فلول الحزب الوطنى بأموال الدنيا وهنا تسربت أموال كثيرة إلى أجهزة الإعلام ومع اهتمام العالم الخارجى بالثورة المصرية وجدنا سباقا محموما لشراء وسائل الإعلام بأى ثمن تحت شعارات كثيرة ابتداء بالحوار مع الآخر،وانتهاء بمؤسسات المجتمع المدنى والدعوة للديمقراطية وتدفقت أموال كثيرة على الإعلام المصرى بعد ثورة يناير البعض تم فى صورة صفقات سرية والبعض الآخر كان معلنا كما حدث مع المعونة الأمريكية ومشاركة الاتحاد الأوروبى .. ولكن كانت هناك أموال أخرى عربية وإسرائيلية وهنا بدأت الدولة المصرية تتحدث لأول مرة عن عمليات التمويل الخارجى وكأنها حدث عارض رغم أن الأجهزة الأمنية كانت تعلم منذ سنوات بعيدة أن أموالا طائلة تتدفق على الساحة المصرية لتمويل الأنشطة الإعلامية فى كل المجالات وأن منظومة إفساد الإعلام المصرى بدأت بأخطاء حكومية ثم كانت كارثة رجال الأعمال وفى النهاية كان سقوط الإعلام المصرى فى يد تشكيلات عصابية دولية ..
ومع اتساع دائرة النشاط الخارجى فى الإعلام المصرى وأمام المبالغ الطائلة التى تسربت فسدت آخر قلاع الإعلام المصرى فى المصداقية والالتزام المهنى والأخلاقى، وبدأ سباق محموم نحو إنشاء فضائيات وصحف جديدة مجهولة الهوية وغير معروفة المصدر .. هناك أحاديث كثيرة تجرى الآن حول متابعة مصادر التمويل الخارجية وفى تقديرى أن الدولة كانت تعرف من خلال أجهزتها الأمنية كل هذه الأنشطة فهل جاء الوقت لكى تتحرك وتعرف وتحاسب رغم أنها تأخرت كثيرا ..
إن ما يحدث فى الإعلام المصرى الآن لا يرضى أحدًا سواء فى السلطة أو الشعب ولكن هل هناك نيات جادة نحو الإصلاح ومن أين يبدأ ذلك كله .. هناك دور أساسى على مؤسسات الدولة التى شاركت فى كل برامج إفساد الإعلام المصرى .. وهناك دور رجال الأعمال .. وهناك التمويل الخارجى الذى ينبغى أن يخضع لرقابة جادة فيما يخص كل أنشطة المجتمع المدنى، وقبل هذا كله علينا أن نبحث عن أساليب تعيد للإعلام المصرى ثوابته وأخلاقياته القديمة حين كان نموذجا للترفع والأمانة والمصداقية ..
هنا يأتى دور الإعلاميين والصحفيين أنفسهم، خاصة من بقى من الرموز التى تقدر المسئولية الإعلامية وتدرك أهدافها ورسالتها وهنا أيضا يأتى دور الأجهزة الثقافية ونقابة الصحفيين واتحادات الكتاب والفنانين والمبدعين وعلى هؤلاء جميعا تقع مسئولية إنقاذ الإعلام المصرى بتاريخه العريق قبل أن يغرقنا الطوفان ..
كيف نطهر الإعلام المصرى من أشباح نظام فاسد ورأس مال انتهازى وضمائر باعت نفسها للشيطان
Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads