هوامش حرة : وماذا بعد المعاش المبكر؟

هوامش حرة

وماذا بعد المعاش المبكر؟

بقلم: فاروق جويدة






وسط ضجيج العاصمة القاهرة الساحرة‏..‏ وبين مواكب الصراخ والحفلات والمهرجانات فيها‏..‏ وخلف مطابع الصحف‏..‏ وشاشات الفضائيات ومواكب الأحزاب وشعارات المثقفين‏,

 


‏ وبين تصريحات المسئولين ووعودهم التي لا تنتهي‏..‏ ومقالات المغرضين والصادقين وأبناء السبيل‏..‏ وبين الأخبار التي تتدفق من كل مكان‏..‏ يهتز الكون أحيانـا لأصوات قادمة من بعيد‏,‏ من أعماق المحافظات والمدن الصغيرة والشواطيء النائية‏..‏ صرخات مكتومة تحمل شيئـا يشبة الأنين‏..‏ بعض هذه الأصوات تسرب في شوارع العاصمة‏..‏ وبدأ يخرج من حارة إلي أخري حتي وصل إلي مقر مجلس الوزراء في قلب العاصمة‏..‏ هذا الأنين الصامت حملته كتائب متنوعة من عمال مصر الذين نسيناهم أمام اختفاء المصانع وصمت الآلات وانسحاب الأضواء في حزن العنابر‏..‏

هؤلاء العمال الذين تطاردهم الآن أشباح البطالة‏..‏ كل واحد منهم يحمل ورقة صغيرة تحمل شعار‏'‏ المعاش المبكر‏'‏ شاب في ثلاثينيات العمر يأخذ مكانه في طابور العاطلين علي المقاهي‏..‏ رجل في خريف العمر يأخذ أشياءه ويلقي بها وسط كتيبة من الأبناء من خريجي الجامعات‏..‏ وفي ساحة البيت الصغير يجلس الأب وحوله مشوار عمره التعيس‏..‏ هذا الأبن خريج كلية الهندسة‏..‏ وهذه الأبنة تخرجت في كلية الحقوق‏..‏ وهذا الأبن الثالث تخرج في كلية التربية‏..‏ جميعهم كانوا من المتفوقين‏..‏ ولكن من أين تأتي فرصة للعمل‏..‏ خريج الهندسة يعمل‏'‏ مرمطونـا‏'‏ في كافيتريا علي الطريق الزراعي والأبنة تعمل ممرضة مع سيدة عجوز في بيت أحد رجال الأعمال أما خريج كلية العلوم فمازال يبحث عن عمل‏..‏

أنضم كبير العائلة أخيرا إلي طابور الأبناء بعد أن باعت الدولة المصنع الذي كان يعمل فيه وتسلم من خزينة المصنع وهو يودع سنوات عمره الضائع خمسة وأربعين ألف جنيه‏..‏ لا تكفي لأطعام هذه الأسرة ثلاثة أشهر ولا يكفي لشراء‏'‏ توك توك‏'‏ أو ثلاث بسكلتات للأبناء‏..‏ ولا يكفي لاتمام زواج ابنته إذا رزقها الله بإبن الحلال‏..‏

هذه القصة الدامية تسمعها في مئات المصانع التي أغلقتها الدولة المصرية لأنها باعتها لمستثمر عربي أو هندي أو إسرائيلي أو إسترالي أو فرنسي أو مجهول الهوية‏..‏ المهم أن المصنع تم إغلاقه بعد أن كان يطعم آلاف الأسر‏..‏ ويوفر الحياة الكريمة لمئات الالاف من البشر‏..‏ ويوفر سلعة رخيصة للمواطنين قد لا تكون ماركة عالمية شهيرة‏..‏ ولكنها تؤدي مهمتها‏..‏ إنها القماش الرخيص الذي كانت مصانع النسيج في المحلة وكفر الدوار وشبين الكوم تبيعه بأسعار زهيدة في محلات عمر أفندي وبنزايون أنها الزيوت الرخيصة وصابون نابلسي شاهين الذي كان يأخذ مكانه في كل بيت مصري فقير إنها زجاج ياسين ودخان موتسيان وحلويات الأحياء الفقيرة وشركة الألبان والجمعيات الاستهلاكية وبيع المصنوعات وجاتينيو وشيكوريل وهانو وإيديال وتليمصر‏..‏ إنها طبق الفول الذي كان يباع بعشرة قروش وأصبح الآن بثلاثة جنيهات‏..‏ هذه المصانع التي أغلقت أبوابها في البداية‏..‏ ثم افتعلت إدارتها الجديدة مشاكل مع العمال‏..‏ ثم جاءت بكتيبة من أصحاب المصالح من ذوي الرتب والألقاب وتركت لهم مهمة تصفية العمال وإبعادهم بأقل التكاليف وهي المعاش المبكر‏..‏ بعد ذلك انطفأت الأنوار في المصانع والمحال وبدأت الفئران والغربان رحلة السفر فيها‏..‏ ومع انسحاب الأضواء تقدمت فرق الإعلانات علي صفحات الجرائد في مزادات لبيع الأراضي‏..‏ وبسرعة رهيبة بدأت مزادات البيع‏..‏ سعر المتر أربعة آلاف جنيه‏..‏ مساحة المصنع خمسون فدانا‏..‏ ومع حسبة بسيطة أصبح المشتري يملك مئات الملايين من صفقات بيع الأراضي وتتدفق القروض من البنوك والأرباح من بيع الأراضي‏..‏ وبعد ذلك يأتي تجار الخردة ويحملون ما بقي من أطلال المصنع إلي وكالة البلح‏..‏ أو مصانع حديد عز في الدخيلة‏..‏

بدأ العمال يشعرون بالخطر ولكن بعد فوات الأوان‏..‏ كانت المصانع قد بيعت‏..‏ والأرض تم تسليمها‏..‏ وأطلال الخردة لم يعد لها وجود وارتفعت في أرض المصانع ناطحات السحاب‏..‏ وهنا اتجه بعضهم يتظاهر أمام مجلس الشعب أو مجلس الوزراء ولم يسمعهم أحد‏..‏

لا يوجد الآن ما كان يسمي اتحاد عمال مصر‏,‏ فقد أغلق أبوابه للتحسينات وهو الذي كان يوما يشهد الاحتفالات والتكريمات والأفراح كلما أنشأت مصر مصنعا جديدا‏..‏ لا مجال الآن للحديث عن القوانين الغائبة‏..‏ والحقوق الضائعة كل ما في الأمر أن العامل تسلم ورقة صغيرة‏..‏ تحمل شعار معاش مبكر‏..‏ ولا يوجد أحد في الحكومة يعرف شيئـا عن عمال مصر‏..‏ ماذا حدث لهم وما هو مصيرهم وأين مصانعهم‏..‏ سلسلة طويلة تشمل كل أرجاء مصر من المصانع التي أغلقت أبوابها وتم بيع أراضيها في مزادات علنية أو سرية‏..‏ قائمة طويلة بأسماء المصانع‏..‏

محلات عمر أفندي‏..‏ شركة البيبسي كولا‏..‏ مصانع كتان طنطا‏..‏ غزل شبين الكوم‏..‏ مصانع كفر الدوار‏..‏ مصانع حديد الدخيلة سابقـا‏..‏ عز حاليا‏..‏ مصانع الأسمنت‏..‏ هيئة التليفونات‏..‏ المراجل البخارية‏..‏ زيوت القناطر‏..‏ النصر لصناعة السيارات‏..‏ مصانع أيديال‏..‏ تليمصر للراديو والترنستور‏..‏ مصانع الحديد والصلب‏..‏ المعدات التليفونية‏..‏ مصانع السماد والكيماويات وعشرات الفنادق‏..‏ مصانع النحاس والمواد الكيماوية‏..‏ وخلف كل هذه الأطلال تجد مئات الآلاف من العمال الجالسين الآن في بيوتهم يتساءلون لماذا حدث هذا ولمصلحة من‏..‏

ماذا أخذت الحكومة من وراء بيع هذه المصانع وتشريد عمالها‏..‏ ووقف إنتاجها أين هذه الملايين وهل كانت تساوي كل هذا الخراب الذي أصاب مئات الالاف من الأسر‏..‏ هل كان الهدف هو بيع الأراضي في النهاية وإغلاق المصانع؟ وإذا كانت الحكومات ترغب في ذلك فلماذا باعت المصانع وأبقت علي مساحات الأراضي الخالية‏..‏

أن بندا واحدا من صفقات البيع كان يكفي لإنشاء مئات المصانع الجديدة وهو أراضي المحالج التي باعتها الحكومة ضمن سياسة تدمير مستقبل القطن المصري‏..‏ كلنا يعلم أن المحالج تنتشر في كل أرجاء مصر من الاسكندرية إلي أسوان ومنها مساحات خيالية علي النيل ووسط المدن الكبري وكانت تستخدم في صناعة الأقطان وتخزينها‏..‏ وفي لحظة مجنونة باعت الحكومة هذه المحالج بتراب الفلوس لتتحول إلي عمارات وناطحات سحاب وقصور لرجال الأعمال‏..‏ كانت النتيجة انهيارا كاملا لزراعة القطن‏,‏ تاج الزراعة المصرية‏..‏ وانهيار كامل لصناعة الغزل‏..‏ وانهيار أكبر لصناعة النسيج إحدي قلاع مصر التي شيدها طلعت حرب في المحلة الكبري وكفر الدوار والقاهرة والاسكندرية ومدن الصعيد‏..‏

كيف باعت الحكومة المحالج المصرية وحولتها إلي أراض بناء خلال ثلاثة أعوام إذا كانت الحكومة تدعي أن هذه المشروعات تمثل عبئـا علي اقتصاد مصر بسبب خسائرها فلماذا سمحت للمشترين بأن تباع كأراضي بناء ويحققون منها أرباحا خيالية‏,‏ من كان أولي بهذه الأرباح عمال هذه المصانع أم عصابات المشترين وهل كان الهدف من برامج الخصخصة وبيع المصانع تطويرها وتجديدها أم بيعها في مزادات عقارية‏..‏

في الفترة الأخيرة بدأت أصوات العمال ترتفع وهي تشاهد ناطحات السحاب التي ترتفع في عنابر المصانع ومئات الملايين من الأرباح التي تدخل الجيوب في صفقات بيع الأراضي‏..‏ والسؤال الآن أليس للشعب حق في هذه الأرقام الخرافية‏..‏ وإذا كان المشتري قد دفع خمسين مليون جنيه في شراء مصنع وباع الأرض فقط بمبلغ‏500‏ مليون جنيه فأين حق الشعب المصري في هذه الصفقات المريبة وأين مصلحة الضرائب وقوانين الضرائب من ذلك كله أين مصلحة الضرائب من مكاسب بيع مصانع الأسمنت والسماد والحديد والعقارات والفنادق والأراضي‏..‏

أن ملايين العمال الذين يجلسون الآن علي الأرصفة بلا عمل يتساءلون لماذا لم تحصل الحكومة علي حقوقنا من بيع هذه الاراضي‏..‏ وكيف انتهي بنا المطاف إلي ثلاثين أو أربعين ألف جنيه في صورة معاش مبكر‏..‏ إذا كان صاحب المصنع الجديد قد حقق أرباحا من بيع الأراضي بملايين الجنيهات لماذا لا تطالبه الحكومة بدفع مستحقاتنا من هذه الأرباح‏..‏

العمال صامتون‏..‏ يفكرون‏..‏ ويحتجون‏..‏ ولكن إلي متي ؟

ولكنهم أخيرا عرفوا طريق مجلس الوزراء‏..‏ والبرلمان وأعضاء مجلسي الشعب والشوري وبدأت مواكبهم رحلة الذهاب إلي مكاتب الأكابر في القاهرة‏..‏ تستطيع أن تراهم الآن علي امتداد شارع قصر العيني في ملابسهم المهلهلة ووجوههم الشاحبة وصرخاتهم المكتومة وقوات الأمن المركزي تحاصرهم ولاشك أن هذه الوجوه سوف تكون سببا في إزعاج أصحاب القرار في صيف القاهرة الساخن جدا هذا العام‏..‏

فهل تدرك الحكومة خطورة الموقف بين عمال مصر‏..‏ وهل تعلم المدي الذي وصلت إليه درجة الغضب والغليان بين صفوف العمال وهل قرأت الحكومة ما يحدث قراءة صحيحة‏..‏ وماذا تعرف كوادر الحزب الوطني عن عمال مصر ومشاكلهم ومعاناتهم في ظل غياب كامل لما كان يسمي اتحاد العمال‏..‏ بعد أن هدمنا المعبد علي أصحابه‏,‏ ماذا ننتظر مما بقي من أطلاله‏..‏ إذا كان بيع المصانع جريمة بكل المقاييس فإن إهمال ضحايا هذه الجريمة من العمال الجالسين الآن علي أرصفة الشوارع جريمة أكبر‏..‏ وعلينا أن نعالج الموقف قبل أن تشتعل النيران‏..‏

‏///////////////‏

‏..‏ ويبقي الشعر

في الركن يبدو وجه أمي

لا أراه لأنه

سكن الجوانح من سنين

فالعين إن غفلت قليلا لا تري

لكن من سكن الجوانح لا يغيب

وإن تواري‏..‏ مثل كل الغائبين

يبدو أمامي وجه أمي كلما

اشتدت رياح الحزن‏..‏ وارتعد الجبين

الناس ترحل في العيون وتختفي

وتصير حزنـا في الضلوع

ورجفة في القلب تخفق‏..‏ كل حين

لكنها أمي

يمر العمر أسكنـها‏..‏ وتسكنني

وتبدو كالظلال تطوف خافتة

علي القلب الحزين

منذ انشطرنا والمدي حولي يضيق

وكل شيء بعدها‏..‏ عمر ضنين

صارت مع الأيام طيفـا

لا يغيب‏..‏ ولا يبين

طيفـا نسميه الحنين‏..‏

في الركن يبدو وجه أمي

حين ينتصف النهار‏..‏

وتستريح الشمس

وتغيب الظلال

شيء يؤرقني كثيرا

كيف الحياة تصير بعد مواكب الفوضي

زوالا في زوال

في أي وقت أو زمان سوف تنسحب الرؤي

تكسو الوجوه تلال صمت أو رمال

في أي وقت أو زمان سوف نختتم الرواية‏..‏

عاجزين عن السؤال

واستسلم الجسد الهزيل‏..‏ تكسرت

فيه النصال علي النصال

هدأ السحاب ونام أطيافـا

مبعثرة علي قمم الجبال

سكن البريق وغاب

سحر الضوء وانطفأ الجمال

حتي الحنان يصير تـذكارا

ويغدو الشوق سرا لا يقال

في الركن يبدو وجه أمي

ربما غابت‏..‏ ولكني أراها

كلما جاء المساء تداعب الأطفال

فنجان قهوتها يحدق في المكان

إن جاء زوار لنا

يتساءل المسكين أين حدائق الذكري

وينبوع الحنان

أين التي ملكت عروش الأرض

من زمن بلا سلطان

أين التي دخلت قلوب الناس

أفواجا بلا استئذان

أين التي رسمت لهذا الكون

صورته في أجمل الألوان

ويصافح الفنجان كل الزائرين

فإن بدا طيف لها

يتعثر المسكين في ألم ويسقط باكيا

من حزنه يتكسر الفنجان

من يوم أن رحلت وصورتها علي الجدران

تبدو أمامي حين تشتد الهموم وتعصف الأحزان

أو كلما هلت صلاة الفجر في رمضان

كل الذي في الكون يحمل سرها

وكأنها قبس من الرحمن

لم تعرف الخط الجميل

ولم تسافر في بحور الحرف

لم تعرف صهيل الموج والشطآن

لكنها عرفت بحار النور والإيمان

أمية‏..‏

كتبت علي وجهي سطور الحب من زمن

وذابت في حمي القرآن

‏'‏من قصيدة طيف نسميه الحنين سنة‏2008'‏

Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads