حدائق الموت في الساحل الشمالي

هوامش حرة

حدائق الموت في الساحل الشمالي

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة



في مصر كثيرا ما تطفو تفاهات الأشياء والبشر علي السطح بينما تنام القضايا الكبري في ادراج المكاتب وملفات المسئولين حتي تختفي مع الأيام و تصبح جزءا من التاريخ والذكريات الأليمة‏..‏

رغم مرور أكثر من ستين عاما علي نهاية الحرب العالمية الثانية ورغم عشرات المشروعات والخطط الضخمة التي استعادت بها أوروبا نهضتها الاقتصادية‏..‏ ورغم آلاف الملايين من الدولارات التي دفعها الغرب كتعويضات لليهود بما في ذلك سرقة وطن وإقامة دولة فمازال ثلث مساحة مصر مزروعا بالألغام علي امتداد أكثر من‏639‏ ألف فدان في الصحراء الغربية ويقدر البعض عدد هذه الألغام بأنها تتجاوز‏60‏ مليون لغم وأقل التقديرات تقول إنها‏23‏ مليون لغم‏,‏ والغريب في الأمر أن تسكت مصر طوال هذه السنوات علي هذه الكارثة التي تمنعها من استثمار وزراعة هذه المساحة الضخمة من الأراضي بل إنها تمنعها من البحث عن ثروات طبيعية لا أحد يعرف مداها‏..‏

والشيء الغريب أن تترك الدولة هذا الملف الخطير لمحافظة مطروح وكأنه شأن داخلي يخص أحدي المحافظات‏,‏ لقد أهملت مصر هذه القضية في كل عصورها الملكية والجمهورية رغم أنها تمثل حقوقـا تاريخية‏..‏

لقد أضعنا فرصا كثيرة علي المستوي الدولي لنطالب الدول التي زرعت هذه الألغام بإزالتها بل إن من حقنا أن نطالب بتعويضات دولية عن هذه الكارثة وبدلا من أن يموت شبابنا غرقـا أمام شواطيء إيطاليا أو ألمانيا أو انجلترا وفرنسا وهم يبحثون عن فرصة عمل لماذا لا نطالب هذه الدول صاحبة هذه الجريمة بتطهير هذه المساحات الشاسعة من الأراضي التي يمكن أن تستوعب الملايين من شبابنا الضائع‏..‏ لقد ضاعت علينا فرص كثيرة لإثارة هذه القضية علي المستوي الدولي‏..‏ عندما حصل اليهود من ألمانيا علي‏76‏ مليار دولار تعويضات عن ضحايا الحرب العالمية الثانية في عصر النازي‏..‏ كان ينبغي أن يتحمل الألمان مسئولية تطهير الأراضي المصرية من الألغام التي زرعوها بالملايين خاصة أن خرائط هذه الألغام موجودة لديهم‏..‏ وعندما اعتدت انجلترا وفرنسا علي مصر في حرب‏56‏ كان ينبغي أن نطرح هذه القضية علي المستوي الدولي وفي نطاق الأمم المتحدة‏..‏ وعندما وقعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل علي وعد لم يتحقق بمشروع مارشال لإعادة بناء الاقتصاد المصري كان ينبغي أن تطالب مصر بحقها الإنساني والتاريخي في إزالة هذه الألغام‏..‏

لقد تصورت أن تكون قضية الألغام موضوعا رئيسيا ومطلبا عادلا لدول أفريقيا في مؤتمر برشلونة في الأسبوع الماضي وأوروبا تحتفل بمرور خمسين عاما علي إنشاء الاتحاد الأوربي‏,‏ ولكن هذه الفرص جميعها ضاعت وفي الوقت الذي نسعي فيه لاستيراد المواد الغذائية من كل من هب ودب وفي مقدمتها القمح نترك هذه المساحة الرهيبة من الاراضي الصالحة للزراعة وكأنها حدائق للموت‏..‏

لقد بعث الجيولوجي السيد عبد الوهاب يوسف المدير العام السابق بهيئة البترول بمجموعة من الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية لحساب مركز الاستشعار عن بعد وجميعها تؤكد وجود نهر قديم غرب نهر النيل ودلتا في شمال الصحراء الغربية‏,‏ وقد تأكد ذلك أكثر من مرة في تتبع الآبار التي اكتشفتها هيئة البترول طوال الفترة الماضية‏..‏ ويقول السيد عبد الوهاب يوسف إن قواتنا المسلحة أزالت‏3‏ ملايين لغم في الفترة من‏81‏ وحتي‏99‏ بتكاليف بلغت‏27‏ مليون دولار كما أن شركات البترول قامت بتطهير مساحات كبيرة من الأراضي منذ اكتشاف حقل البترول في العلمين في عام‏66,‏ وأن ليبيا فرضت علي إيطاليا أن تتحمل تكاليف إنشاء الطريق الدولي الساحلي من السلوم وحتي حدود تونس لأنها كانت شريكا في زراعة هذه الأراضي بالألغام‏..‏ إننا أمام قضية كبيرة يمكن أن تترتب عليها أثار اقتصادية ضخمة بالنسبة لمصر ولا أدري لماذا أهملناها كل هذا الوقت‏..‏

إن مصر لابد أن تطالب كلا من انجلترا وإيطاليا وألمانيا بخرائط هذه الألغام وهذه مسئولية دولية وإنسانية وتستطيع مصر أن تلجأ إلي الأمم المتحدة في هذا الشأن‏,‏ أما السكوت علي هذه الجريمة فهو خسارة كبيرة علي كل المستويات‏..‏ لقد تقدمت محافظة مطروح ومحافظها اللواء محمد الشحات بمبادرة أخيرة لتطهير الساحل الشمالي من الألغام حيث قررت تمليك هذه الأراضي بسعر مائة جنيه للفدان بشرط أن يقوم المشتري بتطهيرها من الألغام وزراعتها‏..‏ ولكن هذا الجهد المتواضع لا يصلح ولا يكفي لإنقاذ‏639‏ ألف فدان يمكن أن تكون فتحا جديدا للزراعة في مصر‏..‏

إن مصر تبعث كل يوم بعشرات الوفود التي تسافر شرقـا وغربا للبحث عن قروض أو استيراد سلع أو فتح باب للاستثمار‏,‏ وما بين المعونات والقروض نسأل هذا ونطلب من ذاك في حين أن لنا حقوقـا دولية ثابتة ومؤكدة ينبغي أن تتحملها الدول التي شاركت في هذه الجريمة‏..‏ إننا ننتظر مائة دولار تأتينا من الكويز أو معونات تأتينا من البيت الأبيض رغم أننا نملك ما نستطيع الاستغناء به عن كل هذا‏..‏ لقد كانت منطقة الساحل الشمالي‏,‏أهم مناطق الإنتاج الزراعي في العهود القديمة وهي صالحة للزراعة وقد قال لي الصديق المهندس حسب الله الكفراوي وزير الإسكان الأسبق وأول من وضع الأساس لاستثمار هذه المنطقة من سواحل مصر أنه عندما فكر في الساحل الشمالي كان تفكيره يقوم علي محورين أساسيين الأول إقامة منشآت جديدة علي الساحل‏,‏ والثاني إقامة مشروعات إنتاج زراعي متطور ومشرعات صناعية مكملة علي امتداد منطقة العلمين وما حولها‏,‏ لأن في هذه المنطقة‏400‏ ألف فدان تصلح لإنتاج القمح وللأسف الشديد أننا اكتفينا بالقري السياحية علي الشاطيء ولم نكمل الجانب الثاني من المشروع‏..‏

إنني أعلم أن مصر من وقت لآخر تثير هذه القضية في المحافل الدولية ثم تنساها ونحن كعادتنا لا نعطي للأشياء الاهتمام الكافي‏,‏ ويمكن أن نطرح موضوعا ثم نبحث عن غيره وفي تقديري أننا أهملنا قضية ألغام الساحل الشمالي أكثر من ستين عاما والمطلوب الآن فتح ملفاتها مع كل أطرافها الدولية‏.‏

أنا لا أعلم أين يوجد ملف ألغام الساحل الشمالي هل يوجد في وزارة الخارجية أم وزارة التعاون الدولي‏,‏ أم أن الملف أصبح تاريخـا يدرسه الباحثون بين أوراق الحرب العالمية الثانية‏.‏ إنني أطالب مجلس وزراء بفتح هذه القضية علي كل المستويات لأنها تستحق أن تكون قضية دولية كبيرة‏..‏ وأرجو من الصديق أحمد أبو الغيط وزير الخارجية أن يبحث في سراديب ملفاتنا القديمة ويعيد طرح هذه القضية علي كل المستويات الرسمية والشعبية في هذه الدول وإذا كنا ندفع الملايين من الدولارات لمكاتب المحاماة في الخارج في قضايا منازعات الاستثمار التي عادة ما نخسرها فلا أقل من أن نطالب بحقوقنا في تطهير هذه المساحات الشاسعة من الأراضي وليكن ذلك من خلال الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية‏..‏ لقد وقفنا بضراوة لنعيد بالقانون الدولي والتحكيم عدة أمتار في طابا أمام إسرائيل‏,‏ ألا يستحق ثلث مصر الذي تحتله ألغام الحرب العالمية الثانية منذ ستين عاما أن نحرره‏..‏ وبدلا من أن نبيع الفدان بمائة جنيه يمكن أن يحقق لنا دخلا بعشرات الألوف من الجنيهات يوفر احتياجاتنا من الغذاء ويمنعنا من سؤال من يساوي ومن لا يساوي‏..‏







ويبقي الشعر

وكان الليل كالقنـاص يرصدنـا

ويسخر من حكايانا

وروعنـا قطار الفجر



حين أطل خلف الأفق سكـرانـا

ترنح في مضاجعنا

فأيقظنـا‏..‏ وأرقنـا‏..‏ ونادانـا



وقدمنا سنين العمر قـربانا

وفاض الدمع في أعماقنا خوفـا وأحزانا

ولم تشـفع أمام الدهر شكـوانـا



تعانقـنـا

وصوت الريح في فزع يزلزلـنـا

ويـلقي في رماد الضوء



يا عمري بقايانـا

وسافرنـا‏..‏

وظلــت بيـنـنـا ذكـري



نراها نجمة بيضاء

تخبو حين نذكـرها

وتهرب حين تلقـانـا



تطـوف العمر في خجل

وتحـكي كل ما كانـا‏..‏

وكانت‏..‏ بيـنـنـا لـيـله


'‏ من قصيدة وكانت بيننا ليله سنة‏1995'‏


Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads