إفــلاس

هوامش حرة

إفــلاس

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة


أعظم الناس في مصر شخص مات‏..‏ وأفضل الأيام في مصر يوم رحل‏..‏ وأجمل أغنيات الحب في تاريخنا نواح علي ماض عبر‏..‏ وأكثر الأفعال استخداما في قاموس لغتنا هي الفعل الماضي‏..‏



وإذا أردت أن تحرك مشاعر الناس في مصر وتدمي قلوبهم افتح خزائن ذكرياتهم وسوف تلقي العجب‏..‏ والواقع أن هذا لا يمثل عيبا في الشخصية المصرية لأن من لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل أيضا‏..‏ ولكن الخطأ الفادح أن يتحول هذا الماضي إلي سجن كبير وأن تصبح الذكريات سدا يفصلنا عن كل شيء حولنا‏..‏ اننا أمة صنعت التاريخ وهذه ميزة كبري ولكن الكارثة أن يتحول التاريخ إلي جدران تفقدنا القدرة علي أن نري الأشياء حولنا‏..‏



من الظلم لنا وللتاريخ أن ندفن ذاكرتنا في توابيت الأمس وحفريات الماضي لأن هذا هو أخطر واسوأ أنواع الإفلاس‏..‏ ليس الإفلاس إلا تملك المال ولكن الإفلاس الحقيقي هو إفلاس الرؤي‏..‏



قامت مصر كلها ولم تقعد حتي الآن بسبب مسلسل رمضاني ظريف وخفيف الظل حول حياة الملك فاروق‏..‏ والمسلسل عمل فني وهناك فارق كبير بين الفن والتاريخ من أراد أن يعرف التاريخ فإن للتاريخ مصادره ووقائعه وحقائقه التي يمكن أن تكون مجالا للاتفاق أو الخلاف‏..‏ أما الفن فهو تفسير لبعض أحداث التاريخ من خلال رؤي ذاتية تخضع في أحيان كثيرة لمواقف المؤلف ورؤاه وأفكاره خاصة أن المسلسل ليس إبداعا فرديا بل هو عمل تشارك فيه عناصر كثيرة ابتداء بالمادة التاريخية وانتهاء بالسيناريو والإخراج والتمثيل وهذه كلها عناصر مؤثرة في مدي نجاح المسلسل وتأثيره‏..‏ وإذا كانت د‏.‏لميس جابر كاتبة النص قد تحررت أحيانـا من حقائق التاريخ وغلبت رؤاها الشخصية علي أحداث المسلسل فليست أول من فعل ذلك ولن تكون آخرهم‏..‏



لقد لجأت كاتبة النص إلي مصادر كثيرة في المذكرات والصحف والحكايات وهي معذورة في ذلك لأن تاريخ مصر كله تقريبا لا يستند إلي حقائق وأخطر الأحداث وأهمها في تاريخ مصر الحديث لا توجد لها وثائق ولا تستند إلي حقائق لأن تاريخنا دائمـا يخضع للأهواء والتفسيرات والمصالح‏..‏



وفي تقديري أن الضجة التي واكبت مسلسل الملك فاروق ضجة مفتعلة تعكس أكثر من ظاهرة وكلها تؤكد تفاهة اهتماماتنا‏..‏ ان ما حدث بعد عرض هذا المسلسل يعكس حالة الإفلاس التي نعيشها الآن‏..‏



إنه إفلاس فكري حيث تراجعت كل القضايا الهامة في حياتنا ولم نجد شيئـا نبكي عليه غير أطلال الماضي رغم أن الحاضر هو الأحق بالبكاء‏..‏



إنها إفلاس في أسلوب ولغة الحوار حيث انقسم المجتمع المصري إلي فريقين لا ثالث بينهما من يتشيعون للماضي ويدافعون عن الملكية ومن يرون أنه لا ماضي لمصر قبل ثورة يوليو وما بين الفريقين ذبحنا الحقيقة واستبحنا أقدار الرجال‏..‏



إنها أيضا إفلاس في ثقتنا في حاضرنا حيث نلقي مسئولية كل شيء علي الآخرين ونخضع في كل مواقفنا وتفسيراتنا لمبدأ المؤامرة‏..‏ رغم أن الأمر لا يتجاوز حدود مسلسل ناجح توافرت له مجموعة من العناصر الإنتاجية الضخمة في الإبهار والتصوير والإخراج والأداء والنص جعلت منه هذا العمل الجيد حتي لو اختلفنا مع كل ما فيه من أفكار ومواقف‏..‏ وقبل هذا كله فإن ما حدث إفلاس في مصادر التاريخ المصري الحديث الذي وقع فريسة للتضليل والافتراءات زمنـا طويلا‏..‏



عندما قامت ثورة يوليو كان من أهم أهدافها تشويه كل ما كان قبلها بحقائقه ورموزه ورجاله وأحداثه‏,‏ ومسخنا جزءا عزيزا من تاريخنا قد نختلف عليه ولكن كان ينبغي أن نحافظ علي مصداقية أحداثه وسقطت كل رموزنا التاريخية ابتداء بعرابي وسعد زغلول والنحاس ومحمد فريد ومصطفي كامل وانتهاء برموز الفكر والإبداع‏..‏ وعندما رحل الزعيم جمال عبد الناصر بدأت رحلة تشويه الفترة الناصرية وألقينا الحجارة علي كل إنجازات الرجل وتوقفنا فقط أمام صورة الطاغية الذي حكم البلاد بالنار والحديد رغم أن إنجازات عبد الناصر بكل المقاييس صفحة عزيزة في تاريخ هذا الشعب‏..‏ وحتي نصر أكتوبر المجيد وهو من أغلي صفحات تاريخنا المعاصر تحول إلي معركة بين مؤيد ومعارض رغم أن دماء الشهداء ينبغي أن تكون أكبر من خلافات الفكر وصراعات المواقف فلم يكن أكتوبر إنجازا للرئيس السادات فقط بل كان ملحمة من ملاحم قواتنا المسلحة ورجالها البواسل‏..‏ والغريب أننا الآن نقف علي أطلال ثلاث مراحل في تاريخ مصر الحديث ما بين فاروق والملكية‏..‏ وناصر والثورة والسادات وأكتوبر والسلام‏,‏ وفي هذه الثلاثية غابت كل الحقائق واختفت الوثائق ولم يبق بيننا إلا بعض العلماء المجاهدين من أجل الحقيقة

أمثال د‏.‏ يونان لبيب رزق‏,‏ الذين نجد لديهم ما بقي من أطلال الحقيقة‏..‏



من الخطأ أن نحاسب كاتبة المسلسل علي تاريخ لم تكتبه ولكن الحساب علي مقاييس العمل الفني نصـا وإخراجا وأداء ومنذ متي كانت الأفلام والمسلسلات مصادر للتاريخ وعنوانـا للحقيقة إن البعض يري أن مسلسل الملك فاروق ظلم ثورة يوليو ولكن ماذا عن عشرات المسلسلات والأفلام التي ظلمت فاروق حيا وميتـا طوال نصف قرن من الزمان‏..‏ ويبدو أن الظلم التاريخي عادة مصرية قديمة منذ أيام الفراعنة ولهذا لا ينبغي أن نقلب موازين الأشياء أمام ممثل أجاد أو مسلسل حقق نجاحـا وحرك مياها راكدة لأن ساعات الزمن لم تعد يوما للوراء‏..‏ ولن تعود‏..‏



ما أكثر الأفلام والمسلسلات التي شوهت تاريخ ما قبل الثورة بل ما أكثر الأعمال التي شوهت الثورة نفسها ولهذا ينبغي أن نتفق علي أن الفن شيء والتاريخ شيء آخر‏..‏ من أراد أن يقرأ تاريخ الملك فاروق والأسرة العلوية في مصر فهناك دراسات كثيرة ورسائل جامعية جادة تحكي عن هذه الفترة بكل ما فيها من الضوء والظلال‏,‏ ولكن من أراد أن يشاهد عملا فنيا يمكن أن نختلف عليه لأبعد مدي فلديه مسلسل الملك فاروق الذي سحب المصريين من كل حاضرهم ليلقي بهم في بئر سحيقة من الماضي مع أن الأحق بالاهتمام هو الحاضر الذي لا أدري إلي متي نهرب منه‏..‏





‏fgoweda@ahram.org.eg‏







ويبقي الشعر





وكانت بيننا ليـلة

نثرنـا الحب فوق ربوعها

العذراء فانتفضت



وصار الكون بستانا

وفوق تلالها الخضراء

كم سكرت حنايانا



فلم نعرف لنـا اسما

ولا وطنـا‏..‏ وعنوانـا

وكانت بيـنـنـا ليـلة



سبحت العمر بين مياهها الزرقاء

ثم رجعت ظمآنا

وكنت أراك يا قدري



ملاكـا ضل موطنـه

وعاش الحب إنسانـا

وكنت الراهب المسجون في عينيك



عاش الحب معصية

وذاق الشـوق غـفرانا

وكـنت أموت في عينيك



ثم أعود يبعـثــنـي

لـهيب العطر بركانـا‏..‏

وكانت بيننـا ليـلة



من قصيدة وكانت بيننا ليلة سنة‏1995‏


Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads