هوامش حرة
ما بقي من الذكريات
يكتبها: فاروق جـــويـدة
بقيت لنا في القاهرة بعض ذكريات عمرنا الجميل وكلما تناثرت أخبار هنا أو هناك حول بيعها أو تغييرها تصيبني حالة من الانزعاج الشديد.. فأنا لا أتصور القاهرة بدون محطة مصر أو حديقة الحيوان أو عمارات شارع عماد الدين العتيقة.. لا أتصور القاهرة بدون حديقة الأورمان أو حديقة الأندلس أو أسود كوبري قصر النيل.. هذه الأشياء والأماكن تحولت مع الزمن والأيام إلي كائنات حية نابضة تعيش فينا ونعيش بها.. كلما عبرت أمام جامعة القاهرة وشاهدت قبتها العريقة وسمعت ساعتها تهز أرجاء المكان أشعر بشيء من الاطمئنان بأن الزمن ترك لنا بعض ما أحببنا, وأن الأوراق التي تساقطت من الشجرة لم تتركها عارية تماما وأن هناك ربيعا قادما ستعود فيه بعض الأشياء إلي ما كانت عليه..
في الفترة الأخيرة قرأت أخبارا وهواجس كثيرة عن انتقال حديقة الحيوان إلي مكان آخر بعيدا عن زحام القاهرة بعد أن تم تخريبها وقتل الكثير من حيواناتها وتدمير أشجارها أو تقسيم محطة مصر وإعادة تشكيلها وتأجيرها للمستثمرين, أو هدم بعض عمارات الخديوية في شارع عماد الدين وميدان الأوبرا مثل عمارة الكونتننتال العتيقة.. وكلما سمعت هذه الأخبار تذكرت كوبري أبو العلا الذي ذهب ضحية تخطيط خاطيء ولا أحد يعرف أين تسكن بقاياه الآن.. قالوا يومها ان الكوبري سيتم تجميعه أمام مبني التلفزيون بحيث يبقي مزارا يرسم عليه الفنانون ويغني عليه المطربون ويبقي جزءا عزيزا من الزمن الجميل.. وتم تفكيك الكوبري وحاصره تجار الخردة ولا أحد يعرف مصيره الآن رغم أن الحديد أصبح من السلع النادرة وربما كانت بقايا كوبري أبو العلا تسكن الآن مصنعـا من مصانع الحديد الشهيرة..
ومنذ تم اغتيال كوبري أبو العلا وأنا أخاف علي ما بقي في القاهرة من الكنوز النادرة خاصة أن لدينا عصابات بينها وبين التاريخ عداء قديم وبينها وبين كل شيء له قيمة حسابات وحسابات.. والحقيقة أنني لا أتصور ميدان رمسيس بدون محطة مصر.. قد تكون المحطة قد شاخت وكبرت ودمرها الإهمال والتسيب ولكن هذا لا يبرر تغيير ملامحها أو تحطيم جدرانها مهما كانت الأسباب.. ان مصر كانت الدولة الثانية في العالم التي أدخلت السكة الحديد.. وكانت السكة الحديد المصرية بقطاراتها ورحلاتها مفخرة للمصريين في كل زمان.. ومازالت أذكر ذلك المساء الذي رأيت فيه لأول مرة محطة مصر في منتصف الستينات وأنا في طريقي للدراسة بجامعة القاهرة..
وشعرت يومها أنني أمام عالم جديد ودنيا جديدة ومازلنا نذكر فيلم الراحل الجميل يوسف شاهين والرائعة هند رستم في باب الحديد.. وبقي صوت القطار وهو يتحرك في المحطة العتيقة صورة لا تفارق خيالي.. فكيف يفكر البعض في تغيير مكان محطة مصر ونقلها إلي مكان آخر لاستثمار المحطة وخصخصتها وهي جزء عزيز من عمرنا ولا شيء يشبهها إلا محطة فيكتوريا العتيقة في قلب لندن وربما كانت هناك علاقة ما بين المحطتين..
والأغرب من ذلك أن يفكر البعض في نقل حديقة الحيوان من مكانها بهدف استغلال هذه المساحات الضخمة من الأراضي في مشروعات استثمارية.. ولنا أن نتصور هذه المنطقة بأشجارها وطيورها وتاريخها بدون حديقة الحيوان لنا أن نتصورها وقد ارتفعت فيها الكتل الخرسانية وازدحمت بالبشر والمواصلات والتلوث.. ان مثل هذا الفكر يعكس خللا لأنه يسعي إلي التخريب وليس البناء.. في حديقة الحيوان أشجار وحيوانات وطيور نادرة يجب أن نحافظ عليها وان كنت أتمني أن يشارك رجال الأعمال في إنقاذ هذه الأماكن وإعادة ترميمها..
منذ سنوات فكر بعض أصحاب القرار في بيع حديقة قصر محمد علي بالمنيل وهي من أندر الحدائق في العالم وفيها أشجار يزيد عمرها علي500 عام.. ويومها تصديت لهذه المؤامرة الكبري حتي أصدر الرئيس حسني مبارك قرارا تاريخيا بوقف صفقة بيع الحديقة واعتبارها أثرا تاريخيا.. وكانت المرة الأولي التي تسجل فيها حديقة كأثر تاريخي في سجلات هيئة الآثار وليس وزارة الزراعة..
ان هناك أيضا عيونا تتجه إلي عمارات الخديوية في شارع عماد الدين حيث تجري عمليات بيع وشراء مريبة وأمام الإهمال والمياه الجوفية والتلوث والزحام أصبحت هذه العمارات تعاني الكثير من أمراض الشيخوخة.. وهنا بدأ البعض يفكر في إعادة استثمارها وإقامة مشروعات عليها وهذه جناية كبري.. يكفي ما خسرته مصر من القصور والفيلات والعمارات التاريخية.. يكفي أن مصر هدمت أكثر من1000 فيلا وقصر تاريخي خلال عشرين عاما وكان من بينها تحفا معمارية نادرة في كل أرجاء مصر.. إن في مصر الجديدة مذابح تدور ليلا في الشهور الأخيرة أطاحت بعدد كبير من الفيلات النادرة والغريب أننا أقمنا عشرات المدن الجديدة في القاهرة وخارج القاهرة ولم نصل يوما إلي المستوي الذي وصل إليه المهندس البلجيكي البارون امبان وهو يقيم ضاحية مصر الجديدة.. لقد تميزت في تخطيطها ومبانيها وعماراتها وقدراتها علي مواجهة الزمن..
انني أطالب المسئولين عندنا بأن يرفعوا أيديهم عن هذه الأماكن التي ارتبطت بعمرنا, والغريب أن المؤامرة تدور في مكان واحد لأن حديقة الحيوان أمام جامعة القاهرة وحديقة الأورمان ليست بعيدة عن الاثنين.. والمسافة بين عمارات الخديوية في شارع عماد الدين ومحطة مصر في شارع رمسيس ليست بعيدة أيضا.. اننا مع كل تجديد أو تطوير يحافظ علي جلال الأماكن وقدسيتها في وجدان الناس.. ولكن الاستثمار وتدوير الأصول الذي يتحدثون عنه لا ينبغي أن يتحول إلي سلاح تدمير وخراب لكل ما هو جميل في حياتنا..
وأنا علي يقين أن محافظ القاهرة الصديق د.عبد العظيم وزير لن يقبل أبدا تخريب محطة مصر تحت دعوي التطوير أو إعادة الاستثمار, وأن حديقة الحيوان لا ينبغي أن يمسها أحد بسوء وأن ما حدث لكوبري أبو العلا جريمة لا ينبغي أن تتكرر وإن كنت أتمني أن يجمعوا أشلاءه المتناثرة في كل مكان.. من أين سنأتي بأشجار تشبه أشجار حديقة الأورمان لقد كنت سعيدا مع الملايين ونحن نشاهد عمليات تجديد أسود كوبري قصر النيل لنحافظ علي جمالها وبريقها ومكانتها في قلوب الناس.. هناك أشياء لا تقدر بالمال وإذا كانت أسعار الحديد قد ارتفعت فهذا لا يبرر أن نفكك الكباري والأسوار حتي يزداد تجار الحديد ثراء..
أذكر يوما ونحن في لقاء مع الرئيس مبارك في معرض الكتاب أنني سمعته يقول في أحيان كثيرة أشعر بالزهو والفخر وأنا أشاهد دهشة وإعجاب رؤساء الدول وهم يقفون في ذهول أمام قصورنا التاريخية يبدون إعجابهم بها وأشعر أننا نملك تراثـا عظيما وجميلا ورائعا..
إذا كانت عمليات تصقيع الأراضي قد نجحت في تدمير ثروتنا العقارية فهذا لا يعطينا الحق أن نبيع حديقة الحيوان أو نهدم عمارات شارع عماد الدين أو نغير ملامح محطة مصر.. اتركوا لنا بعض ذكرياتنا فهي آخر ما بقي لنا في هذا الوطن..
ويبقي الشعر
ما كنت أعلم
أن آخر ما سيبقي في شحوب العمر
قنديل كـسيح..
ما كنت أعلم
أن آخر ما سيبقـي
فوق أطلال الربوع الخضر
عصفور جريح..
ما كنت أعلم
أن دندنة اللـيالي
الراقصات مع الأماني
سوف تـصبـح قـبض ريح..
ما كـنت أعلم
أنـنـي كـمصارع الثـيران
يقفز في الهواء
ويرتـمي في الأرض
ثم يموت.. والدنيا تـصيح..
لا شيء يبقـي من صياح الناس
غير سحابة تـبـكي
علي الدم الذبيح
ثور وإنسان وموت ظالم
يتعانقـان مع النهاية
بينما الدنيا تهـلل بالمديح
الكل في صمت مضي
ومع النهاية.. يستريح.