هوامش حرة : تـراث مصــر الضــائع

هوامش حرة

تـراث مصــر الضــائع

بقلم: فاروق جويدة



أنا لا أذكر آخر مرة شاهدت فيها سيدة الغناء العربي أم كلثوم علي شاشات التليفزيون المصري بقنواته المتعددة لأن التليفزيون لم يعد يذكرها عادة إلا في ذكري رحيلها وهذا ما حدث في الأسبوع الماضي‏..‏

تاهت كوكب الشرق وسط برامج المسابقات التي اشتراها التليفزيون من الفضائيات العربية‏,‏وإذا أردت أن تسمع أم كلثوم أو تشاهد حفلاتها فلن تجدها علي التليفزيون المصري إنها هناك تغني علي شاشات‏'‏ روتانا‏'‏ و‏'‏الأيه أر تي‏'‏

وإذا أردت أيضا أن تشاهد فيلما مصريا قديما حاول ان تبحث عنه علي قنوات الأفلام العربية لأن مصر الدولة تنكرت لتاريخها الفني وباعته في مزادات علنية‏,‏ ولم يعد تاريخ السينما المصرية ملكـا لنا‏,‏ولكنه الآن في أيدي رؤوس الأموال التي تدفع به هنا وهناك ولن يكون غريبا أن يصبح في آخر المطاف في تل أبيب مركز الثقافة العربية القادم‏..‏

لم يكن حدثـا سهلا علينا ألا يشاهد‏80‏ مليون مصري مباريات دورة أفريقيا في أنجولا بسبب الاحتكارات التليفزيونية التي أعطت قنوات الجزيرة الرياضية الحق في منع المصريين من مشاهدة فريقهم إلا بفرمان أميري فتح لهم أبواب السماء‏..‏ كان موقفـا مهينا لنا بكل المقاييس أن ننتظر قرارا خارجيا حتي وإن كان من دولة شقيقة يعطينا الحق في أن نشاهد المباريات‏..‏

هذا الموقف يضع أمامنا أكثر من سؤال حول مستقبل الإعلام في ظل سيطرة رأس المال الضاري والمتوحش علي وجدان الشعوب‏..‏ ولكن الواضح الآن أننا سندفع ثمنـا غاليا لأخطاء جسيمة عندما فرطنا في لحظة مجنونة في تراثنا الفني ولم يعد لنا حق فيه‏..‏

منذ عشر سنوات تسربت إلي مصر كتيبة مالية قامت بشراء تراث السينما المصرية بالكامل أن أكثر من‏4000‏ فيلم أنتجتها مصر في مائة عام تم بيعها بتراب الفلوس في ذلك الوقت‏..‏ واستطاعت رؤوس الأموال العربية أن تصادر تاريخ مصر السينمائي ما بين قنوات‏'‏ الأيه آر تي‏'‏ و‏'‏روتانا‏'‏ وأصبحت‏'‏ روتانا‏'‏ تملك الآن النسخ الأصلية من‏3000‏ فيلم مصري وتمتلك‏'‏ الأيه أر تي‏'1200‏ فيلم‏..‏

والقضية الآن أخطر مما نتصور فقد باعت‏'‏ الأيه أر تي‏'‏ معظم ما تملك من أفلام مصرية إلي شركة‏'‏ روتانا‏'..‏ وتجري الآن مفاوضات لبيع ما تبقي لدي‏'‏ الأيه أر تي‏'‏ وهي‏1200‏ فيلم‏..‏ والواضح الآن أن‏'‏ روتانا‏'‏ تخطط للاستيلاء علي كل ما أنتجته السينما المصرية في كل تاريخها‏..‏

إلي هنا والقضية مازالت بين مؤسسات عربية شقيقة رغم خطورة ما حدث‏,‏ ولكن الجديد والأخطر من هذا كله أن إمبراطور الإعلام اليهودي في العالم روبرت مردوخ قد اشتري‏35%‏ من شركة روتانا ودفع لها‏350‏ مليون دولار أي ما يقرب من‏2‏ مليار جنيه مصري وهناك احتمالات كبيرة أن يشتري روتانا كلها في وقت لاحق‏,‏ولاشك أن دخول مردوخ سوق الإعلام والثقافة في العالم العربي من خلال شركة روتانا يمثل تطورا خطيرا جدا في مسيرة الإعلام العربي‏..‏ إن هذا الرجل يحمل تاريخا طويلا في دعم إسرائيل بالمال والإعلام والفكر سنوات طويلة وقد ساندها وشارك معها في كل حروبها الإعلامية والعسكرية‏..‏ ولا أدري ماذا نفعل إذا وجدنا تراث السينما المصرية كاملا في يد مردوخ‏..‏ او بمعني آخر ماذا سنفعل إذا أصبح تاريخ السينما المصرية كاملا في يد تل أبيب تفعل به ما تشاء عرضا ومنعـا وتشويها‏..‏

إن تاريخ السينما المصرية يمثل جزء خطيرا من مكونات الشخصية المصرية بل والشخصية العربية وكانت الأفلام المصرية ومازالت من أكثر الجوانب تأثيرا في تاريخ هذه المنطقة‏..‏ وإذا كنا قد فرطنا في تراث مصر السينمائي في فترة سابقة أمام إغراءات مادية‏,‏ فماذا سنفعل بعد أن يصبح هذا التاريخ في يد إسرائيل‏..‏

لم يكن تراث مصر السينمائي هو الجانب الوحيد الذي خسرته مصر‏..‏ إن معظم تاريخ مصر الغنائي تسرب أيضا إلي مناطق كثيرة‏,‏ والدليل علي ذلك أن هناك أكثر من فضائية عربية تقدم الغناء المصري طوال‏24‏ ساعة بينما التليفزيون المصري العريق يقاطع كل هذا التراث ولا يقدم منه شيئـا وأكبر دليل علي ذلك أنه لا يقدم حفلات وأغنيات أم كلثوم الآن واكتفي بمجموعات من القرود البشرية تقفز عارية هنا وهناك‏,‏ بينما نشاهد أم كلثوم علي الفضائيات العربية وهذا موقف يحسب بلاشك لهذه الفضائيات التي تقدم هذا الفن الجميل‏..‏

منذ زمان بعيد لم نشاهد حفلات عبد الحليم حافظ وأغنيات عبد الوهاب‏..‏ بل إن التليفزيون المصري لا يعرض أفلامنا القديمة لأنه لا يملك هذا الحق وعليه أن يتعاقد مع روتانا أو الأيه آر تي إذا أراد عرض هذه الأفلام ويدفع ثمن ذلك كما حدث في مباريات كرة القدم في انجولا وكما سيحدث في مباريات كأس العالم في جنوب إفريقيا‏..‏

لقد شهدت السنوات الماضية أكبر الجرائم في تاريخ تراث مصر الفني سواء في السينما أو الغناء‏..‏ تم بيع أصول جميع الأفلام المصرية والمسئولون عندنا في حالة نوم عميق وغشاوة أفقدتهم القدرة علي أن يوقفوا هذه الكارثة بأي صورة من الصور‏..‏ تم تهريب جميع أفلام جريدة مصر السينمائية إلي أكثر من جهة بينها إسرائيل‏,‏وهي تمثل أهم وأخطر ذاكرة للأحداث الكبري في كل المجالات‏..‏ ولا أحد يعرف كيف تم تهريب هذه الوثائق التاريخية الهامة والتي جمعت رموز مصر في مائة عام منذ بدأت هذه الجريدة صدورها في الاسكندرية في عام‏1912‏ علي يد المصور الفرنسي دي لاجارن‏..‏ أن الأحداث الهامة في تاريخ مصرتم تسجيلها في الجريدة السينمائية منذ عودة سعد زغلول من منفاه‏..‏ كيف تسرب هذا التاريخ وما هي العصابات التي قامت بذلك‏..‏

علي جانب آخر فإن الكثير من أصول المسلسلات المصرية كانت ترسل إلي القنوات الإقليمية في مصر ويجري نقلها وتهريب أصولها وتعود للتلفزيون المصري الشرائط المنقولة‏..‏ وقد حدث ذلك في مسلسلات مهمة مثل رأفت الهجان وليالي الحلمية والشهد والدموع وعدد كبير من البرامج التاريخية والوثائقية‏..‏

لقد تعرضت مكتبة التليفزيون المصري طوال السنوات الماضية لعمليات نهب منظمة شملت أهم الأعمال الفنية التي قدمها التليفزيون طوال نصف قرن من الزمان‏..‏

أعرف أن هناك تراثـا آخر ضاع وتسرب بطرق غير شرعية تجسد في المخطوطات والوثائق التاريخية التي اختفت في ظروف غامضة سواء كانت معروضة في الخارج أم تم تهريبها من الداخل أن نهب تراث مصر الفني والتاريخي والوثائقي في السنوات الأخيرة كان عملا إجراميا فادحا بكل المقاييس‏..‏

والآن نحن أمام قضية خطيرة‏..‏ لا أدري ما هو الحل فيها‏..‏ نحن أمام تاريخ سينمائي تجسد في أكثر من‏4000‏ فيلم لا نملك الآن شيئـا تجاهها‏,‏وقد نراها في يد أخري تشوه فيها كما تريد‏..‏ ان هذه الأيدي ستكون قادرة علي منع ما تري من هذه الأفلام‏,‏خاصة ما يتعلق بمكونات الشخصية المصرية انتماء وتاريخا‏..‏ ولنا أن نتصور أن يجلس رقيب إسرائيلي يحذف المشاهد التي يريدها وربما وجدنا بعد ذلك من يحاول إلغاء هذا التاريخ كله‏..‏

لنا أن نتصور هذا الحوت الصهيوني القادم لابتلاع الإعلام العربي لأن دخول مردوخ سوق الإعلام العربي قضية خطيرة يجب أن نعي أبعادها السياسية والإعلامية‏,‏ويجب أن يدرك أصحاب الفضائيات العربية خطورة ما يحدث للثقافة العربية ويجب أيضا أن تكون هذه القضية محل نقاش وسؤال علي المستوي السياسي بين الدول العربية وفي كواليس الجامعة العربية‏..‏

لا أدري هل من حق مصر الدولة ان تطالب بالحصول علي نسخ من هذا التراث السينمائي من خلال مفاوضات مع الشركات التي قامت بشراء هذه الأفلام أم‏,‏ أن الأمر يتطلب دعاوي قانونية‏..‏ وهل يحق لنا ذلك؟‏!..‏

لقد قرأت أخيرا أن السيد أنس الفقي وزير الإعلام قرر عودة جميع الأفلام المصرية وعرضها علي الشاشة مستندا إلي مواد في قانون الملكية الفكرية التي تعطي للدولة الحق في هذه الافلام بعد خمسين عاما من عرض الفيلم‏,‏ وهذا ينطبق علي معظم الافلام التي تم بيعها وسقطت مبررات ملكيتها‏..‏

إن مصر تطالب الآن في كل المحافل الدولية بعودة آثارها من المتاحف الكبري في العالم‏,‏ وتدخلت القيادة السياسية في ذلك كما حدث بين الرئيس مبارك والرئيس ساركوزي‏..‏ فلماذا لا تحاول الحكومة المصرية فتح الحوار حول هذا التراث وهو لا يقل في أهميته عن آثارنا الهاربة‏..‏ يجب أن يتحدث المسئولون عندنا مع المؤسسات العربية التي اشترت هذا التراث لتأمين مستقبله علي الأقل لأن أخشي ما أخشاه إن يأتي يوم لا يكون من حق أجيالنا القادمة أن تشاهد تراثها السينمائي والغنائي والتاريخي وإن يكون هناك من يطالبنا بدفع الثمن‏..‏ هل يعقل أن تنتظر مصر الآن قرارا من أحد بأن يسمع المصريون أم كلثوم أو عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ويقال لنا إن هذه التراث لم يعد ملكـا لكم‏..‏

أن هناك حربا معلنة الآن بين روؤس الأموال التي تسعي للسيطرة علي سوق الفن والإعلام وبين بلاد قام كل تاريخها علي هذا الفن‏..‏ فهل ينتصر المال وتسقط قدسية الفن والتاريخ والإبداع‏..‏

وماذا سنفعل أمام سوق الاحتكارات الفضائية الذي منع المصريين من مشاهدة مباريات فريقهم في انجولا؟‏!..‏

فهل يأتي يوم نطلب فيه من مردوخ المستثمر اليهودي في إسرائيل أن يعطينا الإذن لعرض أفلام فاتن حمامه وأغنيات أم كلثوم وصور سعد زغلول وجمال عبد الناصر والسادات وأحاديث طه حسين والعقاد أو أن نرجو إحدي الفضائيات أن نشاهد مباراة للأهلي والزمالك‏..‏ القضية أكبر من مجرد مشاهدة مباراة أو فيلم أو أغنية لأنها تراث شعب وذاكرة أمة‏..‏ إنها أخطر من ذلك كثيرا‏..‏





ويبقي الشعر

الوقت ليل‏..‏ والشتاء بلا قمر

يأتي الشتاء وعطـرها

فوق المقاعد والمرايا الباكيه

وتـطل صورتـها علي الجدران

وجها في شموخ الصبح

عينا كالسماء الصافيه

أطيافـها‏..‏

في كل ركن تحمل الذكري

فـتشعل نارها

أحلام عمر باقيه

الكون يصـغـر في عيون الناس

حين يصير عمر المرء ذكري

أو حكايا ماضيه

في رحلة النسيان

تلتئم الجراح وتنطوي‏..‏

إلا جـراح القلب

تبقي في الجوانح داميه

الوقت جلاد قبيح الوجه

يرصد خـطوتي‏..‏

وشتاؤنـا ليل طويل عابث ما أسوأه

لا تسأل الملاح

حين يغيب في وسط الظلام

متي سيدنـو مرفأه؟

لا تسأل القلب الحزين

وقد تناثـر جرحه

عن أي سر خبأه ؟

لا تسأل الحلم العنيد

وقد تعثرت الخطي

من يا تري‏..‏ قبل النهاية أرجأه ؟‏!‏

فالوقت ليل

والقناديل الحزينة حولنا

تبدو عيونـا مطـفـأه

لا تكتوي بين الشموع

وأنت ترسم صورة الأمس البعيد

علي رماد المدفأه

فالعمر أجمل‏..‏

من عيون حبيبة رحلت

وأغلي‏..‏

من عذابات امرأة



Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads