هوامش حرة : حين تغيب ثقافة التاريخ

هوامش حرة
حين تغيب ثقافة التاريخ
بقلم: فاروق جويدة
01/07/2011




في الأسابيع الأخيرة بينما كانت الساحة المصرية تضج بالشعارات والتصريحات والمعارك السياسية بين القوي المختلفة كنت اري ان هناك اشياء اهم واخطر من احاديث السياسة خاصة اذا كان الكلام معادا والافكار تتسم بالسطحية, ومايقال هنا يقال هناك وبدأت الرمال تحيط بنا من كل جانب حتي اوشكت ان تغرقنا.
في هذا الجو الصاخب عادت الي ذهني صورة مصر الحضارة والتاريخ والمجد الحقيقي.. عادت مصر بزخمها الفكري والثقافي واكتشفت ان اخطر واهم ماخسرناه في السنوات العجاف هو الانسان المصري بعقله وفكره وقدراته فبدأت أفتش عن اصول هذا الوطن.. وساقتني الصدفة وحدها الي قضية واحدة هي امتهان تراث هذا الوطن.. والتراث لايعني كما يتصور البعض بعض المنشآت والمباني القديمة والآثار التي تعكس صور الماضي البعيد ولكن التراث هو ذاكرة الشعب ورصيده الحضاري والفكري وهو يمثل رباطا وثيقا مابين الأمس واليوم ومن لا أمس له لايوم ولا غد له..
بدلا من ان اجد اجابة عن هذا السؤال ماذا فعلنا بتراثنا واين هو الآن وجدت حالة من حالات الفوضي في كل شيء.. ولم يفرق البعض بين حديث الحضارة وشعارات عن السياسة وبين ماضي شامخ وحاضر هزيل وبين مجتمع صنع التاريخ ومجتمع اهان التاريخ..
لقد اكتشفت اننا نفتقد ثقافة التاريخ فلا قيمة عندنا لأثر.. ولا اهمية لتراث ولاقيمة لحضارة.. لقد اكتشفت وانا اتحدث عن نهب القصور الملكية ان هناك من لايريد ان يسمع حتي ولو جاء ذلك في تقارير رسمية تأكدت من حقائقها وهي اقرب الي احكام القضاء.. وخرجت اصوات كثيرة تعلن ان كل شيء في القصور الرئاسية لم يمسسه بشر.. وكان ولابد ان اصرخ في البرية لانني للأسف الشديد اعرف الحقيقة من مصادرها ومااسوأ ان تعرف الحقيقة في زمن زيف كل الحقائق..
وصرخت مرة اخري هناك لجنة علي اعالي مستوي قامت بجرد هذه القصور وقدمت تقريرها الذي لم يعلن عنه لاسباب لااعرفها وان كنت قد علمت الحقيقة وان هناك مسئولين كبارا يعرفون الحقيقة ولايبوحون بها.. ووسط الضجيج غاب صوت الحقيقة وبدأ الحديث عن تشكيل لجنة جرد أخري رغم ان الاولي كانت تكفي ولكن هناك من يسعي الي اخفاء الحقيقة.. واذا كنت امام الصخب والضجيج قد استسلمت لقرار تشكيل لجنة جديدة الا انني مازلت متمسكا بضرورة اعلان نتائج اللجنة الاولي التي تشكلت يوم23 فبراير الماضي لان ماقدمته يكفي وفيه كل مبررات الادانة..
حين تحدثت عن المتحف الاسلامي وتساءلت اين اغلي مقتنياته واكتشفت كما اعلنت ادارة المتحف انها في المخازن وان المتحف سوف يعرضها في وقت لاحق.. تساءلت لماذا هذا المنطق المقلوب اذا كان هناك متحف تم تجديده وترميمه في8 سنوات لماذا لا يعرض عند افتتاحه وفي ايامه الاولي اعظم مافيه.. لماذا لم يقدم للعالم مقتنياته التاريخية الفريدة وبأي منطق نعرض اشياء محدودة القيمة والاثر ونترك هذا التراث العريق في المخازن وبعد ذلك نقول سوف تعرض هذه المقتنيات في وقت لاحق..
< كيف يقال لنا ان في المتحف102 الف قطعة بينما المعروض2500 قطعة.. وفي اي مكان في العالم يحدث ذلك.. كيف تصدر تصريحات من المسئولين تقول ان في المتحف80 الف قطعة وبعدها بيومين تصريحات اخري تقول95 الف قطعة ثم يقال في النهاية ان المقتنيات102 الف قطعة.. اي الارقام نصدق وكيف يقال لنا ان في المتحف50 الف قطعة عبارة عن مقتنيات غير صالحة للعرض من الفازات والعملات والفخار وجميعها تعرضت للكسر اي ان نصف مقتنيات المتحف الاسلامي فخار مكسر.. هل هذا منطق ان تقام المباني والمنشآت لاشياء غير صالحة من بقايا الفخار.. ومن الذي يؤكد ذلك وهل تم جرد هذه الآلاف من المقتنيات المكسرة.. وهل جاءت بحالتها أم انه الاهمال..
< حين يقال ان المعروضات الثمينة سوف يتم تحديد اماكن لها بحيث تتوافر لها الحماية وهل يحدث ذلك بعد اتمام المبني وترميمه وافتتاحه ام ان هذه الاشياء كان ينبغي ان تكتمل تماما قبل الافتتاح وهل تحملت ميزانية الدولة ملايين الجنيهات لكي نبحث بعد ذلك كله عن اماكن لعرض المقتنيات التي لاتقدر بثمن.. وهل ادركنا مخاطر تخزين هذه التحف مهما كانت درجة الاستعداد لذلك.. كنت اتصور ان توفر الدولة مصادر الحماية وهي قادرة علي ذلك من البداية وليس بعد فوات الاوان..
< كان امرا غريبا جدا ان نجيء الي مصر بلد الفنون والتاريخ بمصمم فرنسي يدعي ادريان لكي يقوم بترتيب المقتنيات وعرضها ولهذا اسقط من حساباته قاعة الاسلحة والسيوف الذهبية ومنها اسلحة صلاح الدين في حطين وسيف بونابرت وتيمور باشا وقلاوون وقام بتفريغ القاعة الخشبية.. ووضع السجاد النادر في المخازن.. أن عرض هذه المقتنيات يحتاج الي ثقافة وطن ومشاعر انسان وعقيدة شعب وهي لاتتوافر لمواطن فرنسي جئنا به ليشيد متحفا اسلاميا عريقا.. هل يمكن ان يلجأ متحف اللوفر الي مصمم عربي أو هندي أو صيني لتصميم مقتنياته هذا الخطأ تكرر قبل ذلك مرات حين افتتحنا دار الاوبرا الجديدة بفرقة الكابوكي اليابانية.. وحين جئنا بملحن فرنسي يدعي ميشيل جار لكي يقدم لنا احتفالية الالفية الثالثة علي سفح الهرم وكانت اضحوكة العالم كله..
هذه كلها اشياء كانت تسعي وتؤكد مسح الشخصية المصرية ماذا يعرف المصمم الفرنسي عن تاريخ الحضارة الاسلامية وماذا يعرف عن مساجدها وبيوتها ورموزها ورجالها وشواهدها ومعاركها وسيوف فرسانها حتي يشيد لنا متحفنا الاسلامي.. الا يوجد في العالم العربي أو الإسلامي مصمم يقوم بهذه المهمة.. ولكن كانت هذه سياسة طمس هوية الانسان المصري العربي المسلم بكل الوسائل وبما في ذلك امتهان التاريخ.
< جانب آخر كان ينبغي ان نتوقف عنده وهو عملية توزيع مقتنيات المتحف الاسلامي علي المتاحف الاقليمية في محافظات مصر ان هذا يؤكد الفهم الخاطيء لاهداف المتحف الاقليمي الذي ينبغي ان يحمل سمات المكان والزمان والبشر الذين يعيشون حوله.. اذا كان هناك متحف في النوبة أو الواحات أو الاسكندرية فكيف نعرض فيه مقتنيات القاهرة الفاطمية أن لكل زمان شخوصه ورموزه ولكل مكان مواصفاته والانسان في النهاية يحمل طين أرضه.. ان توزيع مقتنيات المتحف الاسلامي علي المحافظات يمثل جريمة كبري خاصة ان هناك مجموعات تم توزيعها رغم ان قيمتها الحقيقية في كونها تمثل وحدة متكاملة.
ان السبب في ذلك كله هو ان المناخ الثقافي في مصر الذي امتد لسنوات طويلة كان ضد مايسمي بثقافة التاريخ بكل ماتعنيه من القيمة والاثر والجماليات وقبل هذا كله مايسمي بالانتماء ولهذا لم يكن غريبا ان تكون معظم تجارة الآثار في العالم مصرية وان تكون اعلي نسبة في تهريب الاثار في كل بلاد الدنيا مصرية وان تكون تجارة الآثار وتهريبها من اكبر مصادر الدخل وان يتورط في ذلك الجميع ابتداء بكبار المسئولين في الدولة وانتهاء بأمناء المخازن والخفراء وتجار الممنوعات.
ولهذا عندما خرجت صائحا في البرية اطالب بوقف نزيف الاعتداءات علي تاريخ هذا الوطن انطلقت التصريحات النارية والاتهامات بالتشكيك والاضرار بمصالح الوطن العليا رغم ان بديهيات الحرص علي هذا الوطن ان نحافظ علي تاريخه وتراثه.
بقيت عندي نقطة اخيرة اضعها أمام المسئولين ان تراث مصر الحضاري يتناثر الآن في اكثر من مكان.. القصور التاريخية تتبع رئاسة الجمهورية.. وقصور المجوهرات تتبع وزارة الثقافة ومعها متاحف الفن التشكيلي.. والآثار التاريخية تتبع وزارة الآثار والمساجد والاضرحة التاريخية تتبع وزارة الاوقاف والوثائق والكتب موزعة بين دار الكتب ومكتبة جامعة القاهرة واخيرا مكتبة الاسكندرية.. وامام هذا كله اصبح تراث مصر وتاريخها شيئا مباحا ومستباحا بين القبائل وبين من لايدركون قيمته.
مازلت اعتقد عن يقين ومعرفة ان تراث مصر يحتاج الي ايد أمينة تدرك مسئولية التاريخ ان القضية ليست اتهامات اوجهها لأحد أو تشكيك في النوايا والذمم, ولكن المطلوب ان نعيد النظر في تراث هذا الوطن الذي تعرض لكل محاولات التخريب والتدمير طوال السنوات العجاف التي استباحت كل مقومات الانسان المصري وشوهت تاريخه وذاكرته وانتماءاته...
Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads