هوامش حرة
محمد على .. مرة أخرى
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
لا أدري متي نضع الاحداث التاريخية والشخصيات التي أثرت في تاريخ مصر في مكانها الصحيح ومكانتها اللائقة.. فمازلنا نتعامل مع تاريخنا بكل مراحله تقريبا من خلال رؤي خاصة ومواقف شخصية.. وقد كانت أسرة محمد علي من أكثر المناطق التي تعرضت لتشويه متعمد واغتيال تاريخي مع سبق الاصرار والترصد وربما كان السبب في ذلك ان ثورة يوليو حاولت ان تلغي كل ما كان قبلها من الاشخاص والاحداث والمواقف ورغم ان هناك سوابق كثيرة لعمليات تشويه متعمد في التاريخ المصري القديم إلا ان اسرة محمد علي كانت ومازالت تحتاج إلي انصاف تاريخي..
ومنذ اسبوعين كتبت في هذا المكان حول ذكري تولي محمد علي حكم مصر وقلت يومها ان مصر الكنانة احتفلت بذكري نابليون الغازي عاما كاملا وارسلت وفودا مشاركة الي فرنسا.. واننا اقمنا ندوة متواضعة في ذكري تولي محمد علي.. ويبدو ان المجلس الاعلي للثقافة تصور عن خطأ انني اقلل من اهمية وقيمة الندوة ولكن الحقيقة ان ما كتبته كان اكبر بكثير مما تصوره المجلس الموقر لأن عتابي ولومي كان علي مصر الدولة والاجهزة والمؤسسات وكان آخرها المجلس الاعلي للثقافة لأنني اعلم ان اقصي ما يقدر عليه ندوة أو كتاب.
كان عتابي علي مؤسسات عريقة انشأها محمد علي ومازالت شاهدة بيننا حتي الآن.. وكان لومي علي اننا مازلنا نتعامل مع أحداث كبري من خلال رؤي ضيقة ومحدودة.. لقد ذهب محمد علي وبقيت انجازاته علي ضفاف نيلنا الخالد.. ومن حق الأجيال الجديدة أن تقرأ تاريخا صحيحا لامغالطات ولا تجني فيه.. وليس أقل من ان نضع الرجال في اماكنهم ونحفظ لهم أقدارهم..
وحول هذه القضية وصلتني رسالة رقيقة من المؤرخ والعالم الفاضل د. يونان لبيب رزق.. وانا احمل له تقديرا خاصا.. ومحبة في الله.. ولله.. يقول د. يونان في رسالته:
الأستاذ.. قبل أيام قليلة شاهدتكم في قناة دريم الفضائية في برنامج العاشرة مساء وكان لكم رأي مفاده أن محمد علي لم يلق الاحتفال الواجب من المصريين بمناسبة مرور مائتي عام علي توليته حكم البلاد, ثم أضفتم مستنكرين أن تحتفل مصر بغزو الفرنسيين للبلاد بينما لا يلقي مؤسس مصر الحديثة مثل هذا التكريم, وفصلتم فكرتكم هذه التي عرضتموها بإيجاز في القناة الفضائية في مقالكم الضافي بعدد الأهرام الصادر يوم25 نوفمبر الماضي.
ولما كنت شاهدا بل وشريكا في المناسبتين, فأرجو أن تسمحوا لي بأن أدلي بشهادتي عنهما..
ونبدأ بالقصة الحقيقية للاحتفال بغزو نابليون لمصر, وهو الاحتفال الذي ذكرتم في مقالكم انه قد استغرق عاما بأكمله, فقد حدث قبل ثماني سنوات(1997) أن شكل السيد فاروق حسني وزير الثقافة لجنة للنظر فيما يمكن عمله بمناسبة مرور مائتي عام علي قدوم الحملة الفرنسية إلي مصر(1898), وكنت عضوا في هذه اللجنة, ولست في حل الآن من ذكر أسماء بقية الأعضاء تجنبا لتقليب المواجع!
وكان واضحا منذ البداية أن هناك أكثر من تيار داخل اللجنة, التيار الفرانكوفوني الذي رأي في المناسبة ما يدعو إلي الاحتفال, وكانت حجة أعضائه في ذلك أن الحملة ـ مجازا ـ قد جاءت إلي مصر بالمدفع والمطبعة, وأنها غادرتها بعد أن صحبت المدفع وتركت المطبعة, مما تجسد في الخبراء والعلماء الذين استخدمهم محمد علي, وفي البعثات التي أرسلها إلي فرنسا, وما لعبه هؤلاء في بناء الدولة الحديثة.
التيار الثاني كان معاديا للفكرة من أساسها فقد استنكف أن تحتفل مصر بغزو أجنبي مهما كان كنهه, لدرجة أن أحد أعضاء هذا التيار, وهو أستاذ في الجامعة الأمريكية انتقل إلي رحمة الله, وضع كتابا عن المعلم يعقوب الذي استخدمه الفرنسيون في قواتهم, وقد امتلأ بالنقد للحملة ورآها أولا وأخيرا غزوا أجنبيا ينبغي أن يكون محلا للتنديد وليس الاحتفال.
التيار الثالث الذي أزعم أني كنت أحد أعضائه, وهو التيار الذي حكم النظرة العلمية للمناسبة, ولم يتحمس أصحاب هذا التيار لرأي أبناء التيار الأول بأنها مناسبة للتمجيد, ولم ينحز للتيار الثاني الذي رأي أنها إذا كانت مناسبة فهي للتنديد!!
وأزعم أن هذا التيار هو الذي أملي في النهاية ألا تكون المناسبة إذا ما أقيمت للتمجيد ولا للتنديد, والاكتفاء بأن يكون عنوانها مائتا عام علي الحملة الفرنسية علي مصر, وأن تقتصر علي إقامة ندوة علمية يشارك فيها الفرنسيون, ويبدي فيها كل طرف من الطرفين رأيه في الحملة, ولا أنكرك القول أننا قد قبلنا الفكرة تحت إغراء ما تعهد به الفرنسيون بأن يتكلفوا بنفقات ترجمة السفر الكبير الذي وضعه علماء الحملة تحت عنوان وصف مصر إلي العربية, وهو العمل الذي عرف اجتهادات من البعض لإنجازه, أهمها ما قام به المرحوم الأستاذ زهير الشايب عندما ترجم بتصرف بعضا من أجزائه.
وعلي حد ما أذكر فلم تعقد اللجنة المذكورة أكثر من ثلاث جلسات, حدث بعدها أن سرب أحد أعضائها من المعادين للفكرة من أساسها بعض ما جري فيها, من وجهة نظرة طبعا.. أنها احتفال بالحملة الفرنسية, وقامت قيامة بعض الصحف التي استنكرت أن تقوم مصر بالاحتفال بمرور مائتي عام علي الغزو الفرنسي للبلاد, وأصيبت الفكرة كلها بالسكتة القلبية, إذ يبدو أن وزارة الثقافة تجنبا لوجع الدماغ قررت صرف النظر عن الموضوع بأكمله.
أما عن الاحتفال بمرور مائتي عام علي تولي محمد علي باشا حكم مصر الذي حان خلال العام الحالي, فقبل أكثر من سنة شكل المجلس الأعلي للثقافة لجنة للإعداد للمناسبة, وكنت أحد أعضائها, وتقرر أن يتم هذا الاحتفال علي مستويات عديدة. ندوة دولية يشارك فيها إلي جانب المصريين عدد من المؤرخين العرب والفرنسيين والإيطاليين والأمريكان والألبان, إصدار وإعادة إصدار بعض المؤلفات المعنية بتاريخ الحقبة, وقد تعهد الأستاذ الدكتور محمد صابر عرب رئيس مجلس ادارة دار الكتب وعضو اللجنة بهذه المهمة وأنجزها علي أفضل حال.
أما الندوة الدولية فقد استمرت ستة أيام, ثلاثة منها في القاهرة, ومثلها احتضنتها مكتبة الاسكندرية, وهي فترة طويلة بمقاييس الندوات الدولية, وكنت أتمني أن تكون حاضرا حفل افتتاح هذه الندوة بدار الأوبرا حيث تشرفت بإلقاء الكلمة نيابة عن المؤرخين المصريين الذين شاركوا فيها, جنبا إلي جنب مع كلمات ممثلي المشاركين الأجانب والعرب.
وبالنسبة لدوري المتواضع ففضلا عن اشتراكي في الندوة فقد مهدت للاحتفال الكبير من خلال الصفحة التاريخية الأسبوعية ديوان الحياة المعاصرة التي أقوم علي تحريرها بالأهرام, حيث خصصت للمناسبة تسعة أسابيع متوالية تم خلالها نشر مجموعة من الوثائق والمقالات عن عهد الرجل صدرت بعد ذلك عن مركز تاريخ الأهرام الذي أتشرف بإدارته, في كتاب تحت عنوان محمد علي الكبير ـ ملف وثائقي تجدون رفق هذا نسخة منه.
وأوافقكم الرأي بأن المصريين في اشتياق لمزيد من القراءات عن الرجل وعصره, فكما أبلغتني الأستاذة المسئولة عن إدارة التوزيع أن هذا العمل قد لقي إقبالا كبيرا من القراء.
كان يمكن أن أصمت, كما يفعل الكثيرون, ولكني آثرت أن أقدم هذه الشهادة علي أن تعيدوا النظر في رأيكم الذي أبديتموه قولا وكتابة, خاصة أن المؤرخين الحقيقيين في حاجة إلي قلمكم المنصف في مواجهة أنصاف المؤرخين والمدعين المتربصين بتاريخ هذا الوطن.
مع إعزازي ومحبتي..
وليأذن لي الصديق الفاضل د. يونان أن أوضح وجهة نظري وهي تتلخص في ثلاث نقاط محددة:
أولا: انني كنت أول من عارض الاحتفالية بذكري الحملة الفرنسية وغزو نابليون لمصر ولا اعتقد انني غيرت رأيي فليس من حق أحد سواء كانت وزارة الثقافة أو المجلس الاعلي للثقافة أن يدعي أن نابليون جاء إلي مصر مصلحا ومبشرا بصحوة حضارية وثقافية حتي ولو روج لهذا الفكر دعاة الفرانكفونية ورعاتها في مصر.. ان مجرد التفكير في هذا الطرح تجاوز للحقيقة والتاريخ والامانة الوطنية واذا كانت الاحتفالات بذكري نابليون قد توقفت فهذا لم يمنع ان الفكرة وجدت من روج لها ومن دخل بها دائرة التنفيذ وهناك وفود ثقافية مصرية سافرت واخري فرنسية جاءت للمشاركة في هذه الاحتفالية.. وسواء استكملت اجهزة الدولة احتفالية ذكري نابليون أو أوقفتها فإن هذا لاينفي ابدا ولا يسقط اركان الجريمة.
ثانيا: إن مكانة محمد علي التاريخية, والدكتور يونان اعلم مني بها ـ لايمكن ان نوجزها في6 كتب بعضها يعاد طبعه.. ومسرحية عرضت منذ سنوات مضت وندوة في المجلس الاعلي للثقافة أو اخري في مكتبة الاسكندرية.. كان محمد علي يستحق برنامجا أوسع واكبر واشمل حتي نلغي من عقول ابنائنا حملات التشويه والتدمير التي لحقت بتاريخه ونعيد للرجل مكانته التي يستحقها.. هناك عشرات المؤسسات المهمة التي شهدت بداياتها علي يد هذا الرجل ابتداء بجيش مصر وترسانتها البحرية وقناطرها الخيرية وعشرات المدارس والمستشفيات والبعثات والاراضي الزراعية والقوانين. والنظم الادارية والمدن والترع والمنشآت إن هذا كله يدرس لابنائنا في المدارس في عشرة سطور رغم أن نابليون وحملته يحتلون عشرات الصفحات في مناهجنا الدراسية.. لقد أصدرت فرنسا مئات الكتب عن حياة نابليون.. ولا توجد في المكتبة العربية كلها عشرة كتب عن محمد علي وهي لاتزيد كثيرا عن حياة مطرب أو لاعب كرة مشهور.
ثالثا: كنت اتصور في هذه الفترة من تاريخنا والتي تشهد مراجعات كثيرة ان نعيد النظر في تاريخ الاسرة العلوية في مصر.. ان فيها صفحات كثيرة مضيئة من بينها تاريخ محمد علي نفسه.. وابراهيم باشا القائد العسكري الجسور والخديو إسماعيل الحالم الكبير.. واذا كانت هناك صفحات في تاريخ بعض أفراد هذه الاسرة شهدت أخطاء وتجاوزات فلا ينبغي ابدا ان نلغي صفحات مضيئة ونلقي الضوء علي الخطايا والاخطاء..
مازلت اعتقد أن تاريخ مصر الحديث يحتاج الي جهد علمائنا ومؤرخينا الأجلاء امثال د. يونان لبيب لأن التاريخ الذي كتبه الساسة وصناع القرار لم يكن منصفا في كل الاحوال.. وما أحوج الاجيال الجديدة الي تاريخ حقيقي بعيد عن الاهواء والاغراض والمصالح.
ويبقي الشعر
قد تسألين الآن عن زمني وعنواني
وما لاقيت في الوطن البخيل..
ما عاد لي زمن ولا بيت
فكل شواطئ الأيام في عيني نيل.
قد كان أسوأ ما تعلمناه من زمن النخاسة
أن نبيع الحلم بالثمن الهزيل..
أدركت من سفري.. وترحالي
وفي عمري القليل
أن الخيول تموت حزنا
حين يهرب من حناجرها الصهيل
